الزيارة/ بقلم. نجيب كيَّالي. سوريا

لصحيفة آفاق حرة:

 

الزيارة

قصة قصيرة
بقلم. نجيب كيَّالي

 

زار ابن حزم الأندلسي مؤلِّف الكتاب الشهير: طوق الحمامة عصرَنا، وصل عَبْرَ مركبةِ الزمن، عند نزوله حرَّكَ كتفيه تحت عباءته، وساوى بين طرفيها جيداً، وقام بتركيز العِمامة على رأسه، تمتمت شفتاه:
– توكلتُ عليكَ يا عليم. كن معي لأرى أحوالَ القلوب في هذه الأيام.
تجوَّل ابنُ حزم أولاً في بلاد العرب، اقتربَ من عوالم الشبان والصبايا، كان ثاقبَ النظرة، بالإضافة إلى تتبُّعِ حركاتِ الناظرِ إليهم يستطيع أن يقرأ كتابَ العواطف المكنونَ داخلَ صدورهم. لم يبدُ على وجهه أنه سعيد بما يرى، ويعاين، ويسمع! أخذت حمامةٌ لطيفة تتبعه، من موضع لآخر، وكأنها عرفتْ مرادَهُ، ثم أنس بها، فصارت تنزل، وتحطُّ على كتفيه، وكأنها رفيقةُ سفر.
سمعتِ الحمامةُ تنهداتِه الساخنة، فهبطتْ ذاتَ يوم ووقفتْ أمامه، قالت الحمامة:
– أنتَ عليمٌ بلغة الحَمَام، ومحبٌّ له، وقد جعلتَنا رمزاً للشفافية والحب في كتابك: طوق الحمامة. لذا.. فأنا أُحبُّك.
تمتم ابن حزم:
– أهلاً بكِ، وأنا حقاً فعلتُ ذلك، أمَّا الحَمَام فهو- برقته وجماله- هديةٌ من الله إلينا.
– باختصار.. أنا حزينة مثلك يا صديقي، وما تبحث عنه لا يسرّ.
– ما الذي غيَّرَ أعماقَ النفوس أيتها الحمامة؟
بعد إطراقةٍ أجابته بصوت حزين:
– أمور كثيرة. لن أخبرك عنها، سأدعك تتأمل، وتكتشف الحالَ بنفسك.
اتجه ابنُ حزم- بعد تجواله في بلاد العرب- إلى أوربا وأمريكا.
تعلَّقت الحمامةُ به، فرافقته إلى هناك، وفي الطريق راحت تثرثر حول كتابه ثرثرةً حلوة، وكأنها تريد أن تعلمه أنها قرأت الكتاب أو اطلعت على مضمونه عن طريق التصفح الروحي، وهو أمرٌ يستطيع القيامَ به بعضُ المخلوقات الرهيفة، ومنها الحَمَام. أخبرته بأنه كتب كتابَهُ بناءً على طلب صديق وقع في الحب، وقد بناه على قصص للمحبة قام بوصفها وتحليلها إنسانياً، ولأنه فقيه عالم نأى بكتابه عن القصص التافهة المبتذلة، وقد قسمه إلى أبواب، تجاوز عددها الثلاثين كباب الوصل، وباب طي السر، وباب الكشف والإذاعة.. إلخ.
صفَّقَ ابن حزم قائلاً:
– مرحى.. مرحى. أنتِ تلميذةٌ مجتهدة أيتها الحمامة. هل الناسُ يهتمون مثلك بالقراءة في هذا العصر؟!
– للأسف.. أكثرهم لا يقرأ، وإنما يتابعون شيئاً اسمه.. اسمه: الألعابُ الألكترونية، وشيئاً آخر خلب ألبابَهم ويتقاتلون من أجله.. حتى إنَّ صياحهم يصل إلينا ونحن نحلِّق في السماء، يُدعَى ذلك الشيء: كرة القدم!
في أوربا تعجَّبَ ابنُ حزم من قلة اهتمام الإناث والذكور بعضُهما ببعض رغمَ الحرية المتاحة، رأى في الكثير من الطرق والميادين فتىً وفتاةً يسيران معاً، وبدلاً من أن يتأبط أحدهما ذراعَ الآخر، ويغرقا في همس الحب وجد كلاً منهما يسحب كلباً بسلسلة، وبين لحظة وأخرى يغترف الكلب من الأرض، ويوسعه شمَّاً وتقبيلاً!
عند أحد الجسور شاهد على حديد السور أقفالاً صغيرة لامعة، سأل الحمامة:
– ما هذه؟
– هذه الأقفال بمثابة عهود يضعها بعضُ العشاق هنا. أي أنهم أقفلوا قلوبَهم أو قلوبَهن على حبيب واحد، ولن يقيموا علاقةً مع غيره.
غمرت وجه ابن حزم سحابةُ فرح، صاح:
– الله..! الدنيا مازالت بخير إذن.
– إلى حد ما يا بنَ حزم.. إلى حد ما، فهؤلاء أولاً قلة، وثانياً نصفُهم كاذب، الواحد من هذا النصف لا يعطي عهداً من أعماق روحه، إنما يمارس طقساً بات شائعاً من طقوس العشاق في أوربا.
في أمريكا شاهدَ صوراً مماثلة، وبعضُها أعجب، فقد رأى صبيَّةً تضع بين نهديها حيواناً صغيراً أبيض بحجم الجرذ، أخبرته الحمامة أن اسمه: الهَمَر. يبدو أنها تأنس بلمساته بدلاً من يد الحبيب!
إلى جانب هذه الصورة وغيرها اطَّلعَ على أفلام سكس كرتونية مخصصة لإغواء الصغار، وعلى المثلية المتصاعدة، وعلى حالات من زواج الأقارب، فأحدهم مثلاً تزوَّج ابنته، وآخر تزوج شقيقته، وأنجب منها طفلاً، فصار أباً للطفل، وخالاً له كذلك! اطَّلعَ أيضاً على نمط من العلاقة الجنسية التي باتت مرغوبة جداً مع الحيوان كالحصان والكلب وحتى الفيل! وعلى الضفة الأخرى فكلُّ ما يتصل بتربية مشاعر القلوب فكأنه من القرون البائدة!
أمَّا قمةُ دهشته، فكانت عندما حضر مسابقةً لملكات الجمال. الأجسام البهية المتناسقة كادت تفتك بعينيه، ولو أنه ألَّفَ كتابَهُ الآن لأضاف له باباً يتعلَّق بسِحر الملكات. في آخر المسابقة صعقَهُ أمرٌ غريب: الملكة الفائزة جرت عليها مضاربة جنسية بين عدد من الأثرياء، والأسخى منهم بالدفع حظيَ بها، اصطحبها ذلك السخي- وكان خمسينياً سميناً جداً- إلى الفندق تحت الأضواء الساطعة ليكون أوَّلَ المتمتعين بنهش جسدها الجميل! والمؤلم أكثر أنها كانت سعيدةً بما يجري، ابتسامتها تسيل حتى نهاية حذائها البراق!
قالت الحمامة: هذا يسمونه عصرَ العولمة، والشغل على المكشوف!
سار ابنُ حزم نحو مركبة الزمن ليغادر، وعند بابها التفت نحو الحمامة، وعلى امتداد خط النظر بينهما لمعت حبَّاتُ دموع وكلماتٌ كثيرة مغلقةٌ على أسرارها تشبه الأصداف.
*

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!