كنتُ متأكدًا من أنَّ العودة إلى المنزل مستحيلة، بالذات وقد اختفت المدينة من على الخارطة، لكني عندما رأيتُ الجميع يهربون بعكس الاتجاه الذي أمشيه نحوهم؛ أدركتُ أن أهلي سيجيئون إليَّ بطريقة ما مع هؤلاء الهاربون.
حدث وأن تصورتُ أبي يركض في مقدمة العائلة، يقود معه في يده أخي الصغير وهو غير قادرٍ على احتضانه والركض به، حدث أيضًا أن تصورتُ أمي بملابسها الرثة تركض باكيةً وفي حضنها أختي الرضيعة، وتركض تركض بها غير مبالية أن قدماها تنزفان من دكمات الصخور، حدث أيضًا أن تصورتُ أخي يسقط من شدة الجوع، فيحبو مثل سلحفاة مفزوعة من خطرٍ ما، حدث وأن تصوّرت كل شيء، وشططتُ في مخيلتي كل طرق الهروب، والسماء تُوبِل بالرصاص، والدخان يحف الخلف في مشهدٍ مرعب.
لكن لم أتصور أن يمر بجانبي أحد الجيران وهو يركض مع الراكضين، ويرمي إلي بكلتا يديه كتلة من اللحم في كيسٍ بلاستيكي، ويصرخ راكضًا: هدول أهلك وزنهم ثقيل، ولك امسكهم مشان الله أنا تعبت من تسعين متر عم أركض وأنا حاملهم.
آه يا صاحبي، كيف نخبر العالم أن تسعين مترًا في الجحيم قطعها رجلٌ واحد يحمل أسرة كاملة من الحطب!.