ثكلى فقدت ابنها وراء القضبان / بقلم : محمد بنعمر – المغرب

     و أخيرا استطاعت أن تخلد للراحة  وتستريح من هموم الحياة  وضغطها . ترملت في منتصف الطريق ، ولما استفاقت من صدمتها ، وجدت  أيد تشد تلابيب  لباسها  و أفواه فاغرة  تنتظر من يطعمها  . ولَم يهب لنجدتها إلا ذراعيها  و شجاعتها .وفرت لأولادها ما تلزمه الحياة للعيش مثل أندادهم من الجيران ، لم تبخل عنهم  من حنانها و لم تفرط في صرامتها إن وجب الأمر ، تربوا مثل أولاد الجيران ، لبسوا بذلة  و اقتنوا محفظة جديدتين أول يوم المدرسة ، انتعلوا حذاء ومعطفا جديدين يوم العيد ، اشتروا الحلوى المصاصة مثل أقرانهم عند  باب المدرسة  . لعبوا وتشاجروا   و تصالحوا لتوه . غنوا بلغتهم عن أحلامهم وعن غد أفضل . كبروا وشاخت الأم التي   أنهكتها مرارة الحياة و ما تبقى منها كان من نصيب أعراض تقدمها في السن .  تجاوزت عقدها السادس . أصبحت جدة وتنتشي فرحا حينما يحوم حولها أحفادها في الليل  ، يتزاحمون  على مكان قربها ليسمعوا حكاياتها  ، ثم يغطون  في نوم هادئ . حينها   تشعر بالطمأنينة  و الأمان وتتبع أحفادها الى عالم الأحلام . أحفادها ، دواء أرقها المزمن .

اندلعت شرارة الإحتجاجات في البلدة  مطالبة بتحسين ظروف العيش   وضد التهميش ، و لم تهدأ هاته الاحتجاجات بالوعود التي اعتادوا عليها ، ولتفادي امتدادها ، أخمدت شرارتها بإلقاء القبض على كل نشطائها واحد تلو الآخر .
في ليلة ، لم يعد  الابن الى منزله . طال انتظار الأم ، وخرجت تتقفى أثره . أخبروها ، أن ابنها ألقي القبض عليه ، كبل في ظهره ، أركبوه في عربة و اقتادوه الى وجهة مجهولة . عند سماعها الخبر ، كادت أن تتهاوى ، سيل من العرق البارد نز من جسمها ، ونطقت عبارات غير مفهومة ، كهذيان شخص محموم . التقطت أنفاسها و عادت الى مسكنها . خلت لنفسها في غرفتها و وأجشت بالبكاء .
في الصباح ، نساء كثر ، توافدن عليها لمواساتها . مواسات  بعضهن ،  تشبه عبارات العزاء ، كأنها ثكلى فقدت إبنها . لكنها لم تأبه لهن . تبدو هادئة و ابتسامة لا تفارق وجهها وإن لم تغمض جفنها ، الليل بأكمله . عرفت أن ابنها اقتيد الى معتقل  أقصى البلد . من حين لآخر تبدو  شطأنة البال ، تفكر  كيف تزوره ، و هي التي لم تسافر قط ، سفرها الوحيد كان يوم زفافها حيث امتطت بغلة ، و جرها أهل بعلها .
بعد بضعة أيام ، أخبروها هي وباقي أهل النشطاء  أن حافلة وضعت في خدمتهم لتقلهم حيث يوجد المعتقل ، ومحامون كثر تبرعوا للمرافعة عنهم .

تزوره مرة في الأسبوع . وخلاله تهيئ لوازمها وتجمع قواها . أصبحت صماء لآلام ظهرها  والتهاب مفاصلها . حزام طبي و مسكنات لا تفارقها . لا تتوق الا لرؤية إبنها . تستقل الحافلة عشية ميعاد الزيارة و الرحلة  تستغرق ليلة كاملة  بظلامها . لا يغمض لها جفن  الا غفوات و  تفيقها هزات الحافلة  أو منعطف حاد .  تصل منهمكة ، رجلاها  متورمة ، ولكنها تسير بخطوات ثابتة ، وقامة منتصبة ، و بمزاج مرح . الكل يتساءل من أين تستقي قوتها الجسدية منها و المعنوية .  لم يكن يهمها لا الرحلات المتعبة ، ولا  قساوة  المحكمة  ، سوى أن تعيش وترى ابنها و رفقاءه أحرارا ، و حتى إذا توفيت ستجد من يتكلف بدفنها .

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!