جوى التهجير/ بقلم: ريمة خطاب

بقلم

شمس آب اعتلت قبة السماء الزرقاء، وأشعلت الجو بلهيبها، حتى ليظن كل من تحتها، أنهم في أتون يتقلبون بنيرانه.
ازدحم طريق البلدة الرئيسي بالسيارات التي ضجت بما تحمله من بشر وأمتعة تكوَّمت فوق بعضها البعض.
كنت جالسة مع أختي الصغيرة وزوجة أخي وجدتي في سيارة ( البيك آب ) من الخلف.
أما أبي وأمي فقد ركبا مع السائق، ليتسع لنا المكان.
في زاوية صندوق السيارة وضعنا مايلزمنا من أغطية وفرش لننام عليها ليلتنا الأولى في المخيم، وعلى جانبها تمددت جدتي العجوز التي أنهكها المرض، وتركها بأنفاسها القصيرة، تتقلب بين الموت والحياة.
أما زوجة أخي الحامل، فقد أسندت ظهرها لحديد السيارة، والهلع ثائر على وجهها المخطوف لونه مما عايشناه من رعب تحت القصف والخطر.
أختي الصغيرة ذات العشرة أعوام، انكمشت على بعضها، بالقرب مني، وأغمضت عينيها محاولة تجنب رؤية أوجاعنا المستقرة بوضوح على الوجوه.
كفريق من نمل يسير بانتظام، كانت السيارات قد نظمت ومشت، وقد اتخذت كل واحدة مسارها نحو وجهة مختلفة، فمنها من سينقل ركابها إلى الشمال السوري، حيث انتشرت المخيمات، كانتشار النار في الهشيم،
ومنها ستحطُّ ركابها برحالهم في مدن بعيدة عن منطقتنا التي أصبحت منكوبة، وغير صالحة للعيش، وذلك بسبب تكالب النظام الطاغي عليها، إذ أنه لم يترك سلاحا لم يستعمله في محاولة قتلنا.
لقد باتت أسماء الأسلحة معروفة عند الكبير والصغير منا، البراميل المتفجرة، الحاويات، الصواريخ، الدوشكا، الراجمات، والقناصات التي طالما ترصدت خطانا، تريد صيدنا.
لم أستطع إبعاد عيني عمَّا يدور حولي، برغم مايحمله من وجع وآسى، فطريقنا طويل والوصب أمسك بنا بمخالب من أنين.
كنت أنقل عيني بين السيارات ومن فيها، وقلبي كقلب أم ثكلى، تذرف الدموع على ما تراه من ذل وانكسار على الوجوه.
وقفت عيناي على امرأة جلست على طرف السيارة، فوق أكوام من أثاث بيت( حرامات ووسائد وإسفنج )، كانت ترضع طفلها، وتُربِّت بيدها عليه، ولا تكاد تستطيع فتح عينيها لشدة ما تكابد من ألم البكاء.
مازاد من كمد عشعش في خبايا روحي، نظرات ذلك الرجل العجوز، الذي جحظت عيناه الكبيرتان من بين أخاديد وجهه المسمر، وراحت تبوح بحكايات قهر الرجل، أصوات الأطفال الذين راحو ينزعون عنهم قمصانهم التي التصقت بأجسادهم الطرية من شدة الحرارة، كانت تصل لمسمعي برغم بعد سيارتهم عن سيارتنا.
ثلاثة أطفال كبراعم الورود تفتحت توا، لم يدركوا بعد ما نحن ذاهبون إليه، لذلك كانوا يلعبون ويرقصون، وقد علت أصوات ضحكاتهم ومرحهم، بفرح وبراءة، وكأنهم في حفل.
التفتُّ إلى أختي التي عرفت أنها قد نامت من انتظام نفسها، حولت نظري إلى زوجة أخي المثقلة بهموم حملها، فهي في شهرها التاسع حيث قرب موعد ولادتها، وهذا كان سبب رفضها للنزوح وترك الديار، فكانت تقول:
– لا أريد أن ألِدَ طفلي تحت الخيام، لا أريده أن يصرخ صرخة الحياة في مخيمات الخزي والخنوع،
أما مخاوفها على زوجها، أخي فقد اشتركنا جميعا به، فكلنا يعلم الخطر المحدق به وبرفاقه على الجيهات، حيث يتصدون لعدو ظالم حشد كل طغاة الكون لقتلنا.
أما جدتي العجوز، فقد أدارت وجهها نحو شباك السيارة الحديدية، لتسترق النظر، وتراقب ذلك المشهد الذي يؤجح في النفس كل كدر.
وأخالني أسمع حديث صمتها وهي تقول:
– أعلم أني لن أعود للديار أبدا. فأيامي القصيرة لن تسمح لي بارتشاف تلك الفرحة، التي قد تطول السنون حتى نحصل عليها.
كل هذا الألم الملتصق بي، والذي نبع من القلب والروح المنكسرة، ومشاهد الأسى والشجن التي التفت حولي، كسرتني كزجاج هش سقط من أعلى،
وطني، أهلي، وأحداث دامية، وقادم مبهم لا نعلم له وضوحًا.
كل هذا يجعل منا ورقة وهنة في مهب ريح عاصفة تسعى لإبادتنا.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!