حــــنـــــان / بقلم : القاص والروائي الأردني توفيق أحمد جاد

 

حتى وهي في المطبخ، لا تتخلى عن أناقتها، تترك مخرجاً من الشال الذي تغطي به رأسها، لتنساب مقدمة شعرها الأسود الناعم، وتغطي بعض وجهها، وكأنّ “غُرتها” المقصوصة بشكل مائل ستارة لنافذتيها السوداوين.

كانت منهمكة بالعمل، تقطع اللحم بسرعة ودقة، وكأنها قصّاب محترف، لا ينافسها في فن الطّبخ و المطبخ من يعرفها، حتّى أنّها لُقبت  بـ “الشيف حنان “.

سحب الكرسيّ، ووضعه في الجهة المقابلة لها.. رمقتهُ بنظرةٍ خاطفة وابتسامة، طالما أحسها بَحْرَهُ الذي يأخذه إلى شاطئ يعزله عن صخب الكون وضجيجه من جمال مبسمها..ونظرة أخرى، مع حركة شعرها سحبته بعيدا.. حيث صباحيّة زواجهما

وقد طلب منها أن تُعد إفطارهما الأول، يومها تسمّرت مكانها، حائرةً، مرتبكة، شابكة أصابعها العشرة بقوة وكأن شِجاراً نشب بينها، تعضُّ على شفتها، وهي تشيحُ بعينيها عنه خجلاً.. ثم تقول: ولكن يا أدهم أنا لا أجيد صنع أيّ صنفٍ من أصناف الطعام ولا أعرف كيف أطهو، حتّى أنني أعجز عن…. ما رأيك لو أعددتُ مائدة من “حواضر” البيت؟

قال: أتقصدين اللبن والجبن وما شابه..؟ هذا يومنا الأول، ولا يليق بهذا الصباح إلا إفطارًا مميزًا.

قالت: وددتُ لو أنني أستطيع ذلك و لكن.. أنا لم أتعلم.. حتّى أنني أعجز عن قلي بيضة!

قال: لا عليكِ.. إذن عليّ الآن أن أذهب للسوق لأحضر إفطاراً مناسبا .

استاءت حنان في سرِّها.. لعنت عجزها ولامت نفسها، هي تحبه وكم تتمنى أن تكون قادرة على إسعاده.. كم تودّ ذلك وتتمناه!

حين عاد، استقبلته وهي تصطنع ابتسامة. بادرته بالقول: أعدك حبيبي أن أتعلم كل شيء من أجلك

فقاطعها قائلًا: بل من أجلنا .. وابتسم.. ابتسمت وتابعت قائلة: ستأكل من يديّ ما لذّ وطاب.. أعدكَ أن أتعلم طهو كل أصناف الطعام.

قال: لا عليك الآن.. فالأيام قادمة.

ثم أردف: وعليكِ أن لا تتخلي عن وعدكِ هذا.. وضحكا معًا.

و مرت الأيام، وحنان لا توفر جهدا في تعلم كلّ شيء، لا تترك شاردة ولا واردة إلا وتسأل عنها جارة أو صديقة، وتجرّب..

تنجح مرة وتخفق مرات، وأدهم يلاحظ تغيّر كل شيء من حوله..

حتّى أنها طلبت منه أن يعلّمها كيف تستخدم الحاسوب وكيف تدخل إلى شبكات الإنترنت. لم يتردد يومئذ وعلمها.. وكم أدهشه أنّها خلال وقت قياسيّ كانت تُتقن استخدام الحاسوب، ما جعله يتودد إليها لمساعدته في طباعة أبحاثه وتقارير العمل المتراكمة.

وذات يوم وقف مندهشًا، وهي تخبره أنه لم يبق شيء. “الليلة انتهيت من إنجاز آخر تقاريرك المكدّسة”.. لم يصدّق وهو يرى بعينيه ما فعلته، لكنّها لم تتركه يفكر كثيرا وسحبته من يده إلى المطبخ وقد أعدّت مائدة، لم يكن بإمكانه الإحاطة بها وبأصنافها..

دار حول طاولةِ الطعام مراتٍ ومرات وهو يقول: لا بدّأنك استعنتِ بأحد المطاعم الفاخرة ذات الأسعار المرتفعة.. أو أنك…، قاطعته وقالت: لا.

قال: أتقصدين ..؟.

هزّت رأسها وهي تبتسم، قائلة: بل هو من صنع يديّ، وقد أعددتُ كلّ شيء بنفسي.. وهذا هو امتحاني أيّها المعلم.. وأريدك أن تتذوق ما شئت من الأصناف، وها أنذا أنتظر النتيجة.

وقف أدهم منبهرًا أمام تلك اللوحة، التي خطّت بريشة رسّام ماهر.. فكان هناك أربع من الشموع.. ترسل أشعتها الخافتة في أرجاء المكان، من زوايا الطاولة الأربعة.. مع ورودٍ صغيرة.. وُضعت بعناية بجانب كل شمعة.

في الوسط.. كان هناك صحن رُتّب فيه حبات ورق العنب الملفوفة بعناية واحتراف.. و قد تم ترتيبها وبعناية فائقة، لتبدو حبات الدوالي وكأنها خيوط أشعة تتجه منه إلى كليهما.

على يمين ذاك الصحن.. كان هناك صحن آخر يحتوي على ستّة من حبات “الكبّة المقليّة” والتي كانت تحمل لونًا ذهبيًا.. وعلى يساره ثالثٌ.. وُضع به “دجاجة صغيرة محشية”.. وحولها ورقتان من الخس.. على يمينه كأس ماء.. وعلى يساره كأسُ عصير، فيه مكعبان من الثلج.

أما في الطرف البعيد.. فقد رُتّب جاط  مُشكّلٌ من الفاكهة اللذيذة.. ويقابلهُ في الجهة الأخرى صينية من حلوى “المدلوقة”.. التي كان يعشقها.

وما هي إلا لُقيمات من هنا وهناك حتّى قال: يا الله.. أشعر أنني في أفخم مطاعم العالم.. بل وكأنني في حضرةِ طباخة ماهرة، أعدت لي المائدة بنفسها !

قالت: أكمل طعامك أيها الملك.. كم تمنيتُ أن أسعِدك، وأدخِلَ السرور في كل لحظة إلى قلبك..

قال: لم يمضِ وقت طويل، لتتمكني من إحداث هذا الانقلاب في عالمي، أنتِ الآن تفعلين كل شيء، وتنجزينه بدقةٍ وإتقان.. حتّى أنك تعلمت استخدام الحاسوب وقمتِ بطباعة أوراقي المتراكمة بوقت قياسيّ، وأشياء كثيرة..

تغيّر كلّ شيء من حولي.. وهذه حقيقة ولستُ أحلم أو أتخيّل..أنت زوجة رائعة، وقد فعلتِ بوقتٍ قصير ما عجزت عنه النساء في سنين..

وعاد يُكمل طعامه بِنَهم.. وحين انتهى وغسل يديه وفمه، وجد نفسه يقبّلها وهو يقول: أي كلماتٍ تليقُ بشكركِ مولاتي الملكة..!

شعرت أنها فراشة، تحوم حول زهرة تتفتح لأول مرة، ورحيقها لم تلامسه خيوط الشمس.. أيّ سعادة غامرة تعيشها.. وأيّ فرحٍ يحملها ويعلو بها فوق السحب..!

همس دون أن تسمعه: حنان!.. كم كانت سعيدة يومها.. وكم أسعدني فرحها بتفوقها، وكم انتشيتُ وأنا أقول لها مولاتي الملكة.. فتقول: عفوا مولاي الملك.. ما أنا إلا خادمتك المطيعة..

ولكن، ما كان سبب تلك الغصّة العالقة بجوفها!.. ومن أين دخل الحزن وبعثرها.. وبعثر ما في نفسها النقيّة الودودة! ..ربّما.. لأنني وافقت أن أكون الملك وهي الخادمة المطيعة مثلا!؟

لكنّنا كنّا بأجواء المزاح واللعب.. ومن المؤكد أنّني لم أكن السبب.. ربما شيء دفين في سرّها.. كاد أن يخرج من الماضي، لولا أن السّكين الّتي بيدها لمعت.. فانعكس الوميض إلى عينيه.

رأى نفسه يدخل متأفّفًا ويغلق الباب بقدمه بقوة، ليحدث صوتًا مرتفعًا.. ثم أشاع الضجيج في كل أركان البيت.. هكذا.. دون سبب! أو أنه كان يختلق سببًا للشجار..

كان كفه الضخم يأتي من أبعد مسافة.. حاول منعه ولم يقدر.. ليستقر على وجهٍ طالما أحبه!

وهذه الصورة لم تتكرر، كيف قفزت من مكانها، وركضت إليَّ بسرعة الريح حين سقطتُّ وضرب وجهي بالحائط..

قالت حنان: أخ..

انتبهَ مذعورًا.. نظر إلى زوجته حنان تمسكُ باصبعها، وقد نال منه طرف السكين.. أمسكَ اصبعها، كان الجرح صغيرًا، لم ينزف كثيرا،

وضعه في فمه يريدُ إيقاف الدم، ثم حضنها بقوّة وحاول.. لكنّه لم يتمكن هذه المرّة! .. بكى.. بكى كطفلٍ وهي تمسح بكفّها الرقيق على وجهه ..!

 

 

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!