شروق/ بقلم: عبد السلام كشتير

تلميذة ذكية ومجتهدة تجاوزت الثماني سنوات خلال الدخول المدرسي الحالي.. لا تتوانى في إنجاز كل ما يطلب منها من تمارين وأنشطة منزلية. لا تنام إلا وذمتها خالية من أي التزام مدرسي..
في ليلة الأمس ساعدتها والدتها المتعلمة في فهم بعض ماجاء في أسئلة اللغة والقراءة، بينما تمكنت شروق من انجاز تمارين حول ظاهرة الزلازل بمفردها، وشرحت لأمها كيف أن معلمتها يسر الجميلة والتي تحبها كثيرا، قربت تلميذاتها من هذه الظاهرة الطبيعية العنيفة والمدمرة، وأخذت قلما ورسمت أمامها على ورقة سلما لقياس قوة الزلازل، عبارة عن خط قسمته إلى أجزاء تتدرج أرقامها من الأصغر إلى الأكبر يحدد مخاطر الزلزال كلما كبرت قياساتها. بل أخبرتها أن معلمتها دربتهم داخل الفصل على عملية الحماية الذاتية من الزلزال، كأن يركنوا مثلا إلى زوايا الغرف أو وراء أبوابها، أو يجلسون القرفصاء تحت طاولات أو منضدة، لتحميهم هذه الوضعيات من مخاطر الانهيارات التي قد تحدث في المنازل أثناء الزلزال. والحل الأخير، وحين يصعب إيجاد ملجإ ٱمن، هو العدو خارج المنزل إلى الهواء الطلق والوقوف بعيدا عن البنايات وعن القناطر وغيرها من المنشٱت التي قد تنهار في أية لحظة فتؤذي المتواجدين قربها أو تحتها ..
تشرح لأمها كما لو أنها أستاذة تدير فصلها بحيوية ونشاط.. تنظر إليها أمها بحب وحنان وهي تتابع حركاتها بيديها الصغيرتين وصوتها الطفولي العذب. وملامحها البيضاء تزينها العينان السماويتا اللون وحمرة الخدين التي تزداد مع سخونة الأجواء وكثرة الحركة، والخصلات الصفراء التي تنسدل على جبينها بين الفينة والأخرى فتعيدها إلى الخلف بحركة لا إرادية بيدها دون أن تتوقف عن إلقاء درسها. تنظر إليها وتدعو الله وتبتهل إليه في أعماقها أن يحفظ لها ابنتها وشقيقها وأن يقر عينها بهما.
تنهي شروق أمسيتها بعد التفرغ من واجباتها المنزلية بجولة على غرفة والديها فتمنحهما تلك العناقات الدافئة والقبلات المعطرة بأريج أنفاس الطفولة البريئة، ثم تمر على سرير أخيها الصغير فتقبله وهو نائم فيبادلها نفس الإحساس بحركة سريعة بملامحه دون أن يفتح عينيه، وبيده التي يحركها بالكاد ليعبر لها عن دعوته بليلة سعيدة، ثم تغوص في سريرها.
مع بداية إنطلاق أصوات ٱذان الفجر من صوامع المساجد القريبة من حيها، أحست شروق بسريرها يهتز ويحدث أصوات طقطقات لم تألفها، فانطلقت مسرعة إلى خارج العمارة وهي تطبق ما تعلمته من درس الزلازل بالأمس دون أن تلتفت خلفها، لقد كانت هي وبعض زميلاتها ممن أسرعن إلى خارج الفصل تنفيذا لتعليمات المعلمة،
– إن لم تجدوا مكانا ٱمنا يأويكم، عليكم بالإسراع إلى الشارع ..!
بقيت كلمات المعلمة ترن في أذنيها وهي تعدو إلى الشارع دون توقف. لم تدر المسافة التي قطعت حتى وجدت نفسها وسط الشارع الذي ازدحم بالناس وعلا فيه الصياح والهرج، ثم في لحظة ما تذكرت أسرتها، فانقلبت راجعة إلى الإقامة، لكن حدث ما لم يكن في الحسبان، كان للقدر كلمته الفاصلة، لقد سبقتها إلى العمارة هزة ارتدادية أجهزت عليها وعلى العمارات المجاورة فصيرتها أكواما من التراب امتلأ على إثرها الشارع بالغبار جراء الانهيار الفظيع الذي لحق الحي بأكمله، فحجبت الرؤية وغاصت المنطقة في ظلام دامس. لحظات عصيبة مهولة أنهت حياة أسر وبنايات وتهيئة عمرانية وبنيات تحتية وكل عمل بني ٱدم ليحيى حياة ملائمة.
وقف أولئك الذين نجوا من هذه الكارثة التي أطمرت أنفسا وبيوتا وحاجيات ووسائل عيش .. أصبحت تحت ٱلاف الأطنان من الركامات الإسمنتية والغبار وغيرها. وقفوا مشدوهين جراء ما حصل .. ثواني معدودة انتهى فيها كل شيء. غابت أحياء تحت الركام، وهدمت مدينة تطلب إنجازها ربما عشرات المٱت من السنين .. يا لهول الفاجعة..
ثم بدأت التكبيرات تتعالى بين المنكوبين وهم يهرعون إلى أكوام التراب وركام الخرسانة يبحثون عن أي شيء وهم ينادون على ذويهم بالأسماء فقوي البكاء واستعر العويل وتصاعدت أصوات الحناجر إلى عنان السماء مبتهلين إلى العلي القدير أن يحدث بعد العسر يسرا..
هال شروق هذا الموقف الرهيب الذي لم تتحدث عنه معلمتها الجميلة يسر، وخطر ببالها والداها وشقيقها الصغير، فانطلقت نحو حطام العمارة بنفس السرعة التي خرجت منها قبل لحظات، صعدت فوق أكوام الرمال وهي تهبش بيديها الصغيرتين وتنادي على كل واحد باسمه بقوة عساها تسمع أصواتهم أو تجدهم بجانبها فيهرعون إليها ويحتضنونها لتحس بالدفء وتنعم بالأمان، لكن هيهات… لقد استمرت في الصراخ حتى ذهب صوتها الناعم ولم تعد تسمعه. تابعت الحفر كما يفعل الكل، فإذا بيد تربت على كتفها وتناديها،
– ابنتي شروق أنا هنا أنا معك، لا تؤذي نفسك انتهى كل شيء تعالي إلي..
احتضنها جارهم عباس الذي نجا ربما بمفرده من هذه النكبة العظيمة، وهو يطمئنها ويهدئ من روعها. نظرت إليه نظرة شاردة، لم تتمكن من التحدث إليه، لقد بح صوتها وتبدل لون عينيها إلى الرمادي من شدة حزنها والدعر الذي اجتاحها، وغمرتها ذرات الغبار حتى أصبحت لا لون لها ولا شكل كما كل المنكوبين…

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!