على قيد النبض / بقلم : نريمان نزار محمود 

غالبا ما تكون القصص التي نستقيها من واقع حياتنا ، أقرب الروايات إلى قلوبنا ، وأكثرها ملامسة لأرواحنا ، لذلك طلبت من بطلة قصتي ( رؤية ) أن تسمح لي بتدوين ملامح حياتها ودقائق أسرارها في حكاية ، إيمانا مني بأثرتجارب الآخرين في تعزيز وتطوير الذات وتوسيع المدارك وتحديد الرؤى الفلسفية الحياتية للبشر ، هذا من زاوية ، ومن زاوية أخرى أردت لتلك المسكينة أن تقرأ حياتها بعين أخرى ، وترى واقعها بصورة أكثر وضوحا وتبصّرا فتلمس نقاط الضعف والهنات في شخصها وتسعى إلى تقويم اعوجاج عودها، علّها تكون لها عونا وسندا تتجاوز به الصخور التي قد تعترض طريقها مرارا وتكرارا في سبيل تحقيق ما تريده من حلم .

وبالفعل بدأت بتسجيل تلك الأحداث والصراعات التي رُمْتُ إلى معرفة تفاصيلها وخباياها من فم صاحبتها بصراحة ومصداقية ، وكنت عند حلول المساء ، أصنع كوبا من القهوة المرّة كمرارة أيام رؤية ، وأجلس على مكتبي مسندا ظهري المتألّم من الكد والعمل – وقد كنت قد وضعت المكتب مقابلا للشرفة المطلة على صفحة نهر صاف ، يعكس لصفائه صورة نجوم السماء اللامعة كلؤلؤ منثور – واستمع لتسجيل صوتها المتهالك ، ونبرته المشبعة بشوق وحنين وألم بلا حدود .ثم أمسك يراعي بثقة   الحروف تتساقط على الورق ، كأعباء أضنت كاهل عجوزوأحنت ظهره .

” عشت في حارة من حارات الشام العتيقة ، في بيت ذي طراز تراثي أصيل ، تتوسطه بركة ماء ، وتتسلق جدرانه ازهار الياسمين العطرة ، ولا ننسى تحلّق أفراد العائلة حول طاولة الطعام ، وأصوات لعب الاطفال في تصدح في كل بقعة من المكان ، وأصوات اباعة المتجولين الذي تضجّ بهم الأزقّة والممرات .

وفجأ ة بين ليلة وضحاها ، انقلبت حياتنا رأسا على عقب ، حيث وطأت يد الظلم جمال السنين الماضية ، ومحت غطرستها كل ذكرى من ذكريات الطفولة البريئة ، عبثت بعقارب الساعة لتعيدها إلى عصور ما قبل التاريخ ، إلى عصر البدائية والهمجية ، وبمرور الأيام يزداد الوضع سوءا ويعمّ الخراب المكان ، أشلاء جثث وأصوات نحيب وعويل ، أصبح نعيق البوم والغربان أصوات مألوفة ” وفي هذه اللحظة ذرفت غزيرالعَبرات ، تحشرج صوتها ، وغصّت الحروف في حلقها ، أسكتها الحزن برهة ، لكن نفسها القوية أمسكت بزمام روحها ، وأحكمت القبض والسيطرة على ألمها ، ثم تابعت الحديث .

” أراد والدي أن يحفظنا بأمان فقر أنه لا مناص من الهرب إلى مأوى وملاذ ننشد فيه الأمن والأمان وبالفعل حملنا ما خفّ من أمتعتنا وانطلقنا عبر الطرقات ، نختبئ من أصوات الرصاص المدوّية في الأرجاء ، نننزلق في الخنادق والملاجئ ، نبحث عن الماء والطعام بشقّ الأنفس ، كنا نسير ليلا ونهار حتى أدمت الصخور والحصى أصابعنا ،عانينا الأمرّين عايشنا ظروف لم نفكر حتى أن نمر بها ، عانينا الجوع والخوف والحرمان ، لكن والدي كان دوما يكرر ( إنّ الله مع الصابرين ) ، وهكذا جعلنا الصبر والأمل سلاحنا الذي ندفع به اليأس والقنوط عن حياتنا ، واستمررنا في مشينا إلى أن وصلنا الى حدود دولة مجاورة ، حيث سمح الحراس لنا بالدخول الى مخيم أنشئ خصيصا ليشغله من عانى الحروب والويلات في بلده ”

استوقفتها لحظة بسؤال : ماذا كان شعورك عندما دخلتم المخيم ؟ فأجابت : شعرت بمرارة وغربة ، فهي مرتي الأولى التي أغادر فيها وطني بهذه الطريقة المأساوية . لكن عزائي الوحيد كان أن جميع أفراد عائلتي معي ، وهم بأمان .

مكثنا هناك لفترة غير محدودة من الزمن ، أخذت خلالها أتأمل ما آلت إليه حالنا الآن ، وبدأت أفكر بأنه لا بد أن تكون هذه النقطة هي بداية لمستقبل جديد مشرق ، وليست نهاية الحياة . وهكذا بدأت فكرة التغيير وتطوير الذات تطرق بابي باستمرار ، فقررت أن أخرج من عنق زجاجتي الضيق مسافرة في فضاءات وآفاق رحبة ، ففكرت في استغلال موهبتي التي حباني الله إياها ، تلك الموهبة التي طالما طمحت إلى تطويرها من خلال القراءة المتعمقة في مختلف أنواع العلوم الإنسانية ، فقد كنت أنكبّ على قراءة الكتب لساعات وأيام ، أقفل باب غرفتي عليّ وأتبادل أطراف الحديث مع أبطال القصص والروايات ، مع مؤلفين ومؤلفات ، يفضون لي بخبراتهم  التي أتلقاها بنهم وشغف ، لاقرأ ما بين سطورها من تفاصيل ودقائق مميزة ، كان يظنها البعض عابرة ولا معنى لها .

وهكذا وصلت إلى مستوى مرتفع في الكتابة ، بشهادة مدرسة اللغة العرببة في مدرستي، والتي كانت تشجعني على المشاركة في المسابقات الثقافية على مستوى المدرسة وغيرها ، فقررت الاشتراك في مسابقات كان يُعلن عنها في وسائل الاعلام المختلفة ، كذلك وسائل التواصل الاجتماعي المتعددة ، أرسلت لهم أفضل النصوص التي راقت لي والتي حرصت على مناقشتها لقضايا هامة في مجتمعنا العربي، وبقيت على هذا الحال من إرسال النصوص إلى أن وصلتيني نسخة من جريدة محلية وقد نشرت فيها مقالتي تحت عنوان (متاهات) ، اعترتني فرحة عارمة كأمواج محيط ، كان هذا فوزي الحقيقي وجائزتي التي حلمت بها أثناء سباتي ويقظتي ، كما أنها كانت بداية طريق التأليف الذي سرت  فيه لاحقا بخطى ثابتة وثقة بالغة ، واضعة نصب عينيّ أبيات الشابي :

ومن لم بعانقه شوق الحياة              تبخّر في جوّها واندثر

ودمدمت الريح بين الفجاج              وفوق الجبال وتحت الشّجر

إذا ما طمحت إلى غاية                 ركبت المنى ونسيت الحذر

ومن لا يحب صعود الجبال             يعش أبد الدهر بين الحفر

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!