أجواء من الهدوء والصفاء تلمستها على شرفة يانعة ، تطل على جنة من أزهار ورياحين ، نظرة واحدة إليها تشبع الروح بجمال وشفافية بلا حدود .
جلست بطلة قصتنا ترتشف كوب قهوتها الصباحية ، محاولة نفض غبار الهم الذي تعلق بقلبها منذ الأزل ، وما هي إلا لحظات حتى بدأ وابلمن الأسئلة الغزيرة يتساقط داخل عقلها المنهك : ” لم أنت عابسة دائما ؟ لماذا تجيبين على أسئلة الآخرين بحدة !؟ لم لا تسمحين لاي أحد التقرب منك ؟ كأنك تعيشين في عالم غير عالم البشر.
بقيت تفكر لساعات وساعات ، محاولة الوقوف على إجابات – قد تبدو مقنعة لاسئلتها – لم تنطق بحرف ، بقيت متجهمة ، بدت كأنها فاقدة للوعي ، رغم أن عيونها مفتوحة ، تذكرت فجأة ذلك الصندوق الصغير ، كنزها الدفين ، حيث أخفت أشياءها الثمينة في أعماقه.
قامت من فورها ، وقد غمرتها حماسة شديدة ، كتلك التي تتملك روح محارب ينطلق لساحة معركة ، أو متسابق يبذل قصارى جهده لتحقيق الفوز ، بدأت دقات قلبها تتسارع ، وأقدامها تتخبط من فرط السرعة والاضطراب ، يداها كذلك كان لهما نصيب من الشغف ورهبة استرجاع الذكريات ، وبعد عناء البحث ، وجدت صندوقها العزيز..
تجاذبتها أحاسيس متضاربة ، رغبة في اكتشاف ماضيها السحيق ، الذي تعجز عن تذكر معظمه ، فهو كشريط فيديو أتلفه الضوء ، ولم يبق منه إلا نزر يسير لا يسد الرمق .
ومشاعر قلق يشوبها خوف ، من كشف الستار عن عالم غامض ، قد يحمل بين سطوره ألم وهم وحزن. وبعد صراع داخلي مرير حزمت أمرها ، وقررت فتح صندوق الذكريات.
وجدت داخله مقتنياتها التي احتلت مكانة عميقة في قلبها وروحها ، أشياء عجزت عن التخلي عنها ، وإلقائها في غياهب النسيان ، قلبت مكنونات الصندوق ، وفي عينها نظرة حزن يشوبها اندهاش ، رأت ذلك الشكل المصنوع من الصلصال على شكل حمامة – كان الشكل غير متقن الصنع – حملها على أجنحة الذاكرة إلى منزلها القديم ، حيث كانت تجلس بجانب والدتها آلتي تركت السنون على ملامحها وشعرها أثرا جليا ، وتراقبها بعيون يملؤها الحنان والحب ، بينما كانت تصنع الطفلة أول مجسم لها بأناملها الصغيرة الغضة.
كأن الحياة صفعتها بعنف ، فسقطت مغشيا عليها من هول ما رأت ، سكين بسيطة تلطخت بدم أكثر الكائنات ايثارا وطيبة وتسامح ، من كان سندا لها طوال سني عمرها…. والدها
نعم…. هي تذكر تلك اللحظة… لحظة لا زال طعمها كالعلقم تتجرعه مرارا وتكرارا ، مع كل مشهد أو صورة أو تعليق يجمع بين فتاة وأبيها ، لم تغب تلك الحادثة عن بالها أبدا ، لأنها محفورة في شغاف قلبها الضعيف ، وعمق روحها الثكلى .
وبينما هي شاردة الذهن ، شاحبة الوجه ، أعادها صوت قرع جرس الباب إلى عالم الواقع ،
كانت صديقتها وتوأم روحها ، هبة الله لها ، من تشد أزرها ، وتضيء عتمة حياتها..
شكرا لك يا الله.