في حضن العدم: حكاية السقوط الأخير. قصة قصيرة

لآفاق حرة

“في حضن العدم: حكاية السقوط الأخير”

قصة قصيرة

بقلم. فيصل السائحي. تونس

في مدينة باريس، في ليلة هادئة تغشاها برودة عابرة، جلس  وحيدًا في غرفته الصغيرة. كانت جدران الغرفة تتنفس معه بصمت، كأنها تتآمر معه على اقتناص لحظات من التفكير العميق. ضوء الشارع المنبعث من خلال الستائر شبه المسدلة كان يرسم أشكالًا هلامية على الأرضية الباهتة، وكأنها أشباح تطوف حوله، تراقب كل حركة وكل همسة تخرج من بين شفتيه.

أمسك بقلمه القديم، ذلك القلم الذي رافقه منذ سنوات الشباب، والذي كان شاهدًا على نزواته الفكرية وتجاربه مع الحياة والموت. الورقة البيضاء أمامه كانت تنتظره بفارغ الصبر، وكأنها تعلم أن هذه المرة ليست ككل المرات، أن هذه الكلمات قد تكون الأخيرة.

بدأ يكتب ببطء، حروفًا تخرج من قلبه المثقل بالأحزان: “في هذا العالم، كنت شبحًا يتجول بين الأحياء، جسدًا يتنفس لكنه خاوٍ من الحياة. حاولت العثور على معنى للألم، تفسير لمعاناة الإنسان، ولكنني لم أجد سوى فراغ يتسع كلما تعمقت فيه. الموت، بالنسبة للآخرين كان النهاية، أما بالنسبة لي فهو الخلاص، هو البداية لرحلة جديدة نحو السكينة.”

توقف للحظة، نظر إلى النافذة التي كانت تعكس سماءً مظلمة، خالية من النجوم. كانت السماء مثل روحه، خاوية، مظلمة، لا تحمل في طياتها إلا صدى لأيام مضت وأحلام تلاشت. تذكر كلمات أمه في طفولته: “ستجلب لك عبقريتك الجنون.” وها هو يقف الآن على حافة هذا الجنون، يتأمل النهاية وكأنها العزاء الوحيد من كل ما مر به.

استمر في الكتابة: “العالم كان مسرحًا كبيرًا، مليئًا بالوجوه المقنعة، حيث يتقمص الجميع أدوارًا في مسرحية عبثية. أما أنا، فقد كنت دائمًا الشخصية الهامشية، الحاضر الغائب، التائه في رحلة لا نهاية لها.”

أنهى  كلماته، وترك القلم يسقط بهدوء على الطاولة. شعر بارتياح لم يشعر به من قبل، وكأن ثقل العالم قد أُزيل عن صدره. نهض ببطء، واتجه نحو السرير حيث كانت زجاجة صغيرة تنتظره. لم يكن يشعر بالخوف، بل بالعكس، كان يغمره شعور بالسلام، ذلك السلام الذي طالما بحث عنه في الحياة ولم يجده.

تناول الزجاجة بهدوء، وشرب منها. كان في ذلك الفعل وداعٌ أخير، وداع للعالم الذي لم يفهمه أبدًا، وداع للألم الذي لازمه طوال حياته. 

استلقى على السرير، وأغمض عينيه ببطء. شعر بأن الحجرة تبتعد، بأن العالم يذوب في العدم. لم يعد هناك شيء يربطه بالحياة، ولم يكن هذا مدعاة للحزن. 

في تلك اللحظة الأخيرة، لم يعد للزمن وجود، لم يعد للألم صوت. لقد رحل  في رحلة نحو العدم، حيث لا ألم ولا معاناة، فقط صمت أبدي وسكينة. وكان هذا هو خياره الأخير، أن يجد في العدم ما لم يجده في الحياة: الراحة والسلام.
……

(الأهداء إلى روح  الكاتب الايراني صادق هدايت.. حين يكون الانتحار قرار!!!)

         

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!