كتب. د. رضا عبدالرحيم. زيارة إلى القرية التى”فجعت”القرد !!. قصة قصيرة

لآفاق حرة

زيارة إلى القرية التى”فجعت”القرد !!

د.رضا عبد الرحيم. مصر

تم تكليفى من قبل وزارة الزراعة التى أعمل بها بمأمورية التفتيش على شون بنك الائتمان الزراعى(بنك التسليف الزراعى سابقا) وفروعه الصغيرة فى القرى بمحافظة الغربية ،وولما كانت دراستى الجامعية للتاريخ !فكنت أمارس تخصصى الأول بجمع المعلومات التاريخية عن هذه القرى من الكتب قبل السفر،وأثناء الزيارات أجمع من أفواه الناس التاريخ الشفوى ،وقصة اليوم بدأت ككل قصص التاريخ إنكار، فافصاح فمحاولات لتزييف الحقيقة، فالتاريخ تعلم من البشر الكذب والمراوغة !!
والقصة يرويها بعض الركاب فيبدأ الأول (الرجل العجوز) نافيا القصة بالكلية،بينما تضحك امرأة فى آخر الحافلة مرددة: لا القصة حقيقية ياعم الحاج،وأنت عارف كده كويس !! ضجت الحافلة بالضحك،ويلتفت الرجل العجوز سائل المرأة وانت منين؟ فترد:أنا مش من البلد دى أصلا!أنا متجوزه فيها بس..أكرر السؤال على مسامع الركاب، فيتعصب البعض ، ويرد راجل أربعينى حضرتك بتسأل عن أيه يا أستاذ؟ أخبره، أريد إجابة عن لماذا لحقت كلمة القرد باسم قريتكم(أميوط)؟ وكيف مات؟ وقريتكم اسمها مشتقا من مفرده قبطية الأصل بمعنى الطعام؟ فيخبرنى أن القصة قديمة جدا تتوارثها الأجيال، ومُلخصها أن قرداتى جاء إلى القرية وهو فى شدة الضيق، وليس معه سوى رفيقه فى شقائه، وهو قرده؛ ولم يعرف كيف يلتمس ما يطعمه به، ففجع الراجل عند موت القرد جوعا. فيمتعض(الراجل العجوز) زاعقا: القرداتى ده كان من كفر الشيخ، ولف كتير بالقرد ،وما حدش رضى يطعمه فى القرى اللى حوالينا ،ودخل قريتنا والقرد تعبان فمات، إحنا مالناش ذنب، وهو كمان مات فى قرية قبلنا اسمها “العمه” يعنى مش فى قريتنا خالص! تلاحقه المرأة التى فى آخر الباص: هو أنت من عائلة مين ياحاج فى البلد؟(تقرظه) !! فالبخل فى هذه القرية له جذور: أصل وفصل ونسب، والكل يعرف بعضه !! يفهم الراجل مغزى سؤالها، فلا يجيبها ،ويلوذ بالصمت ,ويعج الباص بالضحك من جديد.
وصلت إلى القرية التى فجعت القرد، وطفت فى شوارعها سبع مرات طواف الحجيج بمكة؛ابحث عن إجابة فى وجوه أهل القرية، اشترى من محل بقاله مياه غازية وأردد عليه سؤالى ،فيضيف للقصة قصة ،واجلس على مقهى صغير من البوص، فيضيف القهوجى قصة أخرى إلى القصص السابقة. حتى أجلس إلى” ابن المقفع” (هذا ليس اسمه طبعا)،فهو كهل بسيط مرح ذا نكتة، يغزل طواقى صُوف بأبر قصيرة صدئة، أردد سؤالى.يحك لحيته بأصابعه المعروقة مبتسما، ويخبرنى أن كلمة القرد تم حذفها من اسم القرية منذ 1843م ، لكن هذه ليست إجابة سؤالى ياحاج! يسألنى هو حضرتك منين ؟ أجيبه من طنطا، فيقولى خلاص “القرد” جاى من عندكم تعبان !! نتبادل الضحكات- فالراجل ذو كياسة وفطنة ويتمتع بلياقة ذهنية يحسد عليها- يبادرنى بحذق:
وحضرتك عرفت موضوع القرد منين؟ لا يقف كثيرا عند اسم الجغرافى “محمد رمزى” ولا عند كتابه”القاموس الجغرافى “، وكأنه لم يسمع شيئا، يخبرنى بعد أن ألبى طلبه بالصلاة على النبى، بحكايات أشبه بحكايات كليلة ودمنة ولهذا استحضرت شخصية ابن المقفع، فهو نَاسِج بِرِد الحكاية لُحمتهُ وسداهُ،، يقول إن قردا شارك فلاحا من القرية فى زراعة فدان أرض، ففى أول محصول كان بطاطا ،فخَيْر الفلاح النبيه القرد هل تاخذ نصيبك من عَرْش الزرع أم ما فى الأرض(البطاطا تنضج تحت الأرض) فاختار القرد العَرْش ظنا منه بأنه سيبيعه بثمن كبير، لكنه عاد من السوق خالى الوفاض،وفى الزرعة الثانية وكانت قمحا (غله يعنى) خَيْرْ الفلاح القرد بعد دَرْسِ القمح وتشوينه وترك التبن فى الأرض ،بين أن يأخذ ما فى الأرض أم ما فى الشونة،فأختار القرد ما فى الأرض، ظنا منه أنه تعلم من الخطأ السابق، وعندما ذهب إلى السوق لم يشتر منه أحد،فطق مات !!
ويديندن بصوت شجى أبيات شعرية لم أسمعها من قبل،وكأنه يرثى حاله :
أقمت فيكم على الأقتار والعدم،لو كنت حرا أبى النفس لم أقم. وظلت أبكى لكم عذرا، لعلكم تستيقظون وقد نمتم عن الكرم، فلا حديقتكم يُجنى لها ثمر، ولا سماؤكم تنهل بالديم.