كنتُ أهربُ من الصفّ ، وأجلسُ على سياج المدرسة ، مُنتظرا خروجي مع الصالحين . عندما ضبَطَني أبي أكتبُ شِعرا ، أعطاني كتابَ ألف ليلة وليلة : من يومها ابتدأتُ رحلةَ البحثِ عن ” قوت القلوب ” .
من يومها وأنا أتدفّقُ من خواطر الينابيع ، ومع دموع الصبايا : تمسحُ عنّي مناديلُ الأمهات غُبارَ سفر طويل ، رأيتُ فيه مئات البلدان ، وأنا جالسٌ بين أحضانِهن .
عشتُ في الكهوف ، وأكلتُ العشبَ مع الحيوان في البراري : ارتعشتُ من البرد ، وسجدتُ للبرق ، ثم انتشرتُ في الرّعد : خدمتُ في المعابد ، وعثروا على وجهي في ألواح الطّين عندما رسمتُ محبوبتي على جلْدِ الزمن : صعدتُ الفرات ، ومعه انفجرتُ في كل فيضان : حاربتُ مع السومريين في أور ، قاتلتُ مع البابليين ضدّ البدو ، ثم سَلَبتْ لُـبّي امرأةٌ آشورية ، وتوارتْ في زحام مدينةِ نينوى ، فبكيتُ حتى سالتْ دموعي في دجلة ، وطافَ بي طائفٌ من الهُيام فهربتُ وحيدا ، حتى وصلتُ إلى آخر نقطةٍ في الزمن : رقصتُ كثيرا مع زوربا ، وجلستُ طويلا تحت شجرة بوذا : طفتُ مع عُرفاء ومتصوّفة ، وطرتُ في الهواء مع المجانين ، لكنّ صوفيا لورين أغوتْني ، في الظلام ، فقفزتُ إلى الشاشة ، وأقنعتُها أنني الرجلُ الذي كانت تبحثُ عنه في فيلم ” sun flower” .
طردوني من السينما لأنني كنتُ ولدا وقحا ، فخرجتُ من الأحلام إلى العالم ، ومعي قبلةٌ جادَ بها فمُها الخارق ، لكنّني لم أصلْ إلى البيت ، رغم أني سلكتُ نفسَ الطريق الذي أتيتُ منه .
كان أبي قد مات عندما وجدتُ السبيل إلى مقهاه ، حيث كان يجلسُ الجنودُ الهاربون من الثّكنات .
كنتُ أريدُ أنْ أضعَ الحقيقةَ بين يديهِ المُتعبَتين من حفْر الأنفاق في السجون .
كنتُ أريدُ أنْ اشكرَهُ لأنه أفسدَ حياتي .
كنتُ أريدُ أنْ أشرحَ له خُلاصةَ العصور، فـ ” قوت القلوب ” لم تكنْ غيرَ إينانا السومريّة : مفقودتي التي تشعبتْ روحُها بين الدّخان والحرائق .
وحين حاولتُ أنْ أقصَّ الحكايةَ على عُشاق هائمين مثلي ، صَعقـتْـني معرفتي ، وفقدتُ القُدرةَ على النُّطْق ، فلم أجدْ ما أفعلُهُ سوى أنْ أعودَ لأجلسَ على سياج المدرسةِ ، مُنتظرا خروجي مع الصالحين ..
