مفاجأة البنفسج / بقلم: عبد السلام كشتير( المغرب)

كان ترددي على مكتبة الكلية التي أدرس فيها خلال السنة النهائية، أقوى مقارنة بالسنوات السابقة، فالسنة الحالية هي سنة التخرج، وأنا مطالب فيها بتهييء بحث نهاية السنة أو الإجازة، أسطر فيه كل معارفي العلمية التي راكمت خلال السنوات الماضية، وأضمنه عصارة أفكاري ورؤيتي ومنهيجة تحليلي للموضوع الذي أبحث فيه.

كانت الأجواء صيفية، والحرارة تسود في كل فضاءات الكلية بالرغم من الظلال الوارفة المنتشرة في حديقتها المشهورة بأشجار الزينة المتنوعة التي تجمل الفضاء الداخلي لهذا الصرح العلمي العريق، وتزيد من رونقه وبهائه، وتلطف النسيم فيه.

ثلة من الطلبة من يقتعد مقاعد الحديقة لينتعشوا بالهواء الرطب الذي يسود في هذه البيئة الجميلة. كنا أنا وزميلي من بين هؤلاء. حيث كنا على موعد هنا لنتابع ما بدأناه بالأمس من نقاش حول الموضوع الذي نبحث فيه معا، حيث يكمل بحث أحدنا الٱخر. هكذا كان برنامج البحوث لهذه السنة، وبهذه الصيغة تم الاتفاق حول البحوث والمنهجية المتبعة داخل هذه الوحدة العلمية التي ننتمي إليها، حتى تحصل الاستمرارية والنجاعة في البحث، ونحقق من خلال أبحاثنا الأهداف المسطرة في برنامج البحوث لهذه السنة.

بعد حديث قصير بيننا، قرر زميلي الالتحاق بالرفاق في مقصف الكلية، فهو مازال لم يتناول فطوره كما عادته. يتأخر دوما في أخذه وهو يتذرع بذرائع أحيانا لا نجد لها ملاءمة مع واقعنا، اللهم السهر الكثير الذي يذهب شهيتنا عند الاستيقاظ من سويعات النوم القليلة التي نأوي فيها إلى الفراش. لم أسعفه في خطته، فأنا لا أخالف عادة الفطور المبكر الذي هو تقليد عائلي بامتياز. إنما قررت أن أتوجه نحو خزانة الكلية لأنهي استثمار بعض المراجع التي بدأت قراءتها بالأمس.

ولجت قاعة المطالعة وأنا أسترجع خيوط بعض الأفكار التي تتقافز في ذهني محاولا الإمساك بها وتنظيمها وتثبيتها حتى لا تتبخر كما حدث مع أخواتها سابقا.

توجهت مباشرة إلى الرفوف التي تنتظم فيها المراجع الصالحة لبحثي. ودون أن أتفحص القاعة التي شعرت عند دخولها بأنها شبه فارغة وهادئة. مددت يدي للكتب المرجوة، فإذا بخواشمي تعبق بعطر أنثوي يليق بأجواء الصيف. انسقت مع أريج العطر الذي أنعشني، فأجواء القاعة رغم النوافذ الكبيرة المشرعة لا تجلب هواء كثيرا لغياب فتحات مماثلة في الجهة المقابلة لها. استدرت بهدوء، فإذا بي أجدها على مقربة مني. بضع سنتمترات فقط، تكاد أجسامنا تتلامس. التقت نظراتنا في الوقت الذي استدرت فيه نحو مصدر العطر. ترسم ابتسامة تزين ملامحها الجميلة، يشع من عينيها سنا بريق كاسح لا يمكن لأي مخلوق أن يقاوم انجذابه خصوصا إن كان هدفا له. لم تنبس ببنت شفة، اكتفت بالنظر إلي وأنا شارد جامد كالصنم. ماذا حل بي؟ لماذا انجذبت إليها بهذه السرعة ودون أدنى مقاومة؟ لقد نسيت أننا تجادلنا في المرة السابقة حول قضايا تافهة في الحقيقة، ولكن كبريائي جعلني أنسحب غضبانا من الجدال وأتركها دون وداع وأنا أوجه إليها بعض الألفاظ من قاموس العراك والخصام الذي أتسلح به. لم ترد علي وقتها بالمثل، لكنها استدارت وانسحبت بهدوء. في طريقي إلى البيت جالت في ذهني أشياء كثيرة سيطرت عليها فكرة فض صداقتنا وليذهب كل واحد إلى حال سبيله..

لكنني نسيت كل شيء وأنا أتملى بمحياها البهي، بل وجدته هذا الصباح أجمل من ذي قبل، لا مثيل لجماله وطرواته ورسمه… اكتفت هي بضحكة خفيفة ومدت يدها نحوي. بمجرد ما لمست يدي يدها حتى أكملت سلامها كما العادة وهي تقبل خدي الأيمن. كانت هكذا تنهي سلامها عندما كنا نلتقي. أذعنت لها دون تردد ومسكت بيدها وأنا أضغط على أصابعها كرد فعل فجائي لم أفكر فيه، بل حدث تلقائيا. انطلقت تسألني عن حالي وصحتي وأين وصل بي المسار في البحث.. كنت أجيبها بهدوء وأنا تحت وقع الصدمة. ألوم نفسي كيف أنني لم أفكر فيها طيلة الأسابيع الماضية، ولم أبحث عنها؟ هل احتراما لكبريائي ورجولتي؟ أم تقاعسا مني؟ لقد غطى خبثي على طيبوبتي وانسقت مع الأفكار السوداء التي اجتاحتني وقتها، وعتمت علاقتي بزميلتي وصديقتي التي تحتل مكانة خاصة في قلبي. لماذا تصرفت بهذه الوقاحة لما تناقشنا؟ لماذا اعتزلتها واعتزلت التواصل معها؟

في الحقيقة، وانا أستجمع خيوط هذه الحكاية التي غابت عني، ولم انشغل بها، بل اختفت من ذاكرتي في خضم الدراسة والسهر والاجتهاد في الحصول على المراجع والمعلومات الضرورية لبحثي، تأكدت من أنني سهوت عن تذكرها والتفكير فيها. لكنني وجدت نفسي هذا الصباح أمام حقيقة واقع قلبي التي عبر عنها من خلال انبهاري بحضورها، وقبول الحديث معها بتلقائية وإذعان، وهو يخفق لها ولحسنها ولفيض تسامحها، ولمواقفها التي تعبر عن عمق علاقتنا.

أعجبت بفستانها الخفيف الموافق لأجواء الصيف والمزين بالأزهار البنفسجية التي أحبها. كنا كثيرا ما نتحدث عن الألوان والزهور والطبيعة، فأكثر من الثناء على اللون البنفسجي. أتذكر أنني حكيت لها قصة حب نابوليون لهذا اللون، وكيف كان يهدي الزهور البنفسجية لعشيقته. كنا حينما ننتهي من حصصنا المسائية في كليتنا، ننزل إلى شارع وسط المدينة، نسير وأيدينا متشابكة ونحن نمر بين أشجار الجاكرندا الجميلة ذات الزهور البنفسجية التي تزين جنبات الشارع. تزهر هذه الأشجار نهاية فصل الربيع وبداية فصل الصيف، فتضفي على وسط المدينة بهاء منقطع النظير. فكنت أكثر من الثناء على هذه المناظر الطبيعية الخلابة وأعتبر الزهور البنفسجية رمزا للتواضع والطيبوبة.

لما تحدثنا وسألنا عن أحوال بعضنا البعض، وهدأت القلوب والعقول، وتماهت الأرواح وسمت، تأكدت من أنها أرادت أن تصالحني بما أحب. تبادلنا الابتسامات والوشوشات، وهي تتمايل أمامي دون أن تحرر يدها من يدي، وعيناها متعلقة بعيناي وثغرها ذي اللون الكرزي الفاتح يفرج على تلك الابتسامة التي سلبت لبي.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!