منتصف الوهــم/بقلم حسن سالمي

 

على شاطئ الأحلام، وعلى مرمى حجر من اليقظة، رأيته.. كان طيفا جميلا ما رأت عيناي مثله..لم يكن على هيئة مألوفة لديّ.. لا هو شبيه بالبشر.. ولا هو شبيه بمن سواهم.. كائن عجيب يتأبّى عن اللّغة وأسوارها.. كأنّما هو من عالم آخر خارج مدارات الأرض.. وجدت منه في نفسي كلمات ليست كالكلمات.. لا صوت يحملها، ولا أحرف تلبسها.. نفذت إلى صدري بطريقة غامضة، أشبه ما تكون بالوحي: “هذا يوم خير لك ممّا طلعت عليه الشّمس..”

وقبل أن يتلاشى، أو ينفذ من الهواء إلى جهة مجهولة، قد تكون عالما موازيا، وضع في يدي نظّارة عجيبة بهيّة الصّنعة، وكلمات أخرى تتردّد في صدري: ” ضع هذه على عينيك ترتدّ بصـيرا..”

وإذا كان الغريب عادة يبعث في الإنسان الخوف والتوجّس.. فإنّي حيال هذا الكائن خلاف ذلك تماما.. وجدت منه في نفسي سكينة مريحة، وشعورا منقطع النّظير بالطّمأنينة والسّلام..

نهضت من فراشي.. توجّهت إلى النّافذة الوحيدة في الغرفة.. فتحتها وكانت تطلّ على حديقة البيت.. فهالني الجمال الذي أضحت عليه.. انهمر نور الشّمس ممزوجا بهواء نقيّ، فشعرت كأنّهما يغسلان روحي من درن الأيّام، ويصيّرانها شفّافة صافية كروح طفل ولدته أمّه للتّو..

نعم داهمني هذا الشّعور وأنا ألقي نظرة على الخارج.. خضرة يانعة.. وصفاء لامع.. وسكون عجيب.. ونور تتراقص أشعّته في الفضاء وفي ساحة الحديقة.. الغريب أنّ أشعّة الشمس لم تكن على عهدي بها.. بدت لي حزمة لا نهاية لها من الأنابيب، رفيعة شفّافة، مختلفةً ألوانها، تشكّل مناظر هندسية جميلة في الفضاء، وعلى أجسام الأشياء..

انتبهت إلى أنّي كنت أضع النظارة على عينيّ.. نزعتها فعدت أنظر إلى الدّنيا في سيرتها الأولى.. عجبت أيّما عجب.. وضعتها على عينيّ مجدّدا.. وأخذت أتجوّل في بيتي.  من غرفتي إلى الغرف الأخرى.. إلى الصّالون.. إلى المطبخ.. إلى الزّوايا والأركان.. كادت أنفاسي تنحبس  وأنا أنظر من حولي فأراها تحوّلت إلى لفيف من القشّ والزّبالة ونفايات تجرح العين.. نزعت النّظارة فإذا بيتي تعود إليه فرشه وتحفه الثّمينة.. في تلك اللّحظة مرّت زوجتي.. كدت انكفئ على وجهي من الرّعب وأنا أراها على صورة حيّة رقطاء قصيرة.. تقف على ذيلها مشقوقة اللّسان، يتقاطر من أنيابها السُّم.. قالت ووجها يحمل آلافا من علامات التعجّب والاستياء.. ربما لأنها قرأت في سحنتي ما لم يرق لها..

  • ما بك.. وما هذه ؟

قالت ذلك في الوقت الذي مدّت يدها إلى النّظارة تنزعها… أخذت تتفرس فيها معجبة.. وحينها عادت إلى هيئتها البشريّة، جميلة فاتنة .. قالت:

  • نظّارة أنيقة.. فمن أين لك ؟

ارتبكت وخشيت إن أنا صدعت بالحقيقة أو حدّثتها بما رأيت لم تصدّقني.. بيد أنّها لم تنتظر منّي الجواب، إذ سمعت صرخة رضيعنا تأتي من غرفته فهرعت إليه..

كان واضحا أنّها لم تر ما كنت أراه !

وقفت أمام المرآة والنّظّارة على عيني.. خنقني الضّيق وأنا أرى صورتي على غير عادتها.. رأيتني قردا قميئا أدرد ليس في القرود أقبح منّي !

قلت في نفسي والخيبة تملؤني كدخان أسود: ” أهذا أنا؟ ”

تذكّرت الطيّف وكلماته..” ضع هذه على عينيك ترتدّ بصيـرا..”

أحقّا هذه صورتي؟

وتلك التي رأيت عليها زوجتي أهي حقيقتها بالفعل؟

ذلكما الهدوء والسّلام كانا مجرّد حالة خادعة سبقت العاصفة إلي.. لكن بمجرّد أن هبّت رياح الأخيرة، حتّى تلاشيا من نفسي كالسّراب.. وأذرياني وحيدا مع الجحيم..

خرجت إلى الشّارع والنظّارة على عينيّ.. فرأيت عجبا.. ما كان من الطّبيعة كالشّجر والعشب والشّمس والسّماء والسّحاب، ففي أحسن صورة.. أمّا ماكان من البشر فهم على صور الغربان والقرود والخنازير.. وقليل من كان على صورة أبيه آدم…

دلفت إلى إدارتي، فألفيت رئيسها لدى الباب.. كان على صورة ثعلب هزيل ينقدح المكر في عينيه.. كشّر عن أنيابه الصّفراء وبقايا دم على فيه:

  • متأخّرٌ كالعادة!

لم أجبه.. ومضيت صامتا إلى مكتبي.. هناك وجدت زميلتي وقد تبدّل قبح وجهها وتهدّل جسمها إلى جمال فتّان لا يوجد مثله في الأرض..

انهرت على كرسيي جسدا خائرا، توشك الحياة أن تقطع بي أسبابها.. وضعت رأسي بين راحتي، بينما ارتكزت على سطح المكتب بذراعيّ.. راحت أفكاري تطير بي إلى بعيد، كطيور مهاجرة تبحث عن الدّفء والأمان..

سمعت زميلتي تقول:

  • ما لي أراك مسودّ الوجه كظيمه.. أتشكو علّة؟

لا أدري هل أجبتها أم لا.. ولكنّي عدتإلى عالمي.. في داخلي عاد ذلك الصّوت يتردد.. كأنّما ينفذ إليّ من عالم الغيب: ” اقرأ كتابك.. كفى بنفسك عليك حسيبا..”

لم أفهم غاية هذا الكلام في البداية، لكن وذاكرتي تفتح كرشها المنتنة، فهمت كلّ شيء..

بعينين غير التي في رأسي رأيت كأنّي في محراب مظلم مهجور، في آخره درهم كبير كقرص الشّمس يعلوه الصّدأ.. عاد الصّوت يتردد في داخلي:” أليس هذا ربّك !؟”

ثم نظرت في أفق آخر.. فإذا النّاس يضعون أمعاءهم في رقبتي، وقد جلبوا لي صغارهم يتعلّقون بساقي ويدي.. رأيتني أضربهم وأخبط فيهم غير مبال بصرخاتهم، كأنّني ناقة عشواء..

ثمّ نظرت في أفق آخر فإذا أنا أجمع غائطا كريها بيدي العاريتين، وأفتكّه من بين أيدي النّاس لأدّخره في حقق صدئة.. رأيت أبنائي يعودون نطفا قذرة.. يغوصون في قلب البراز ثم ينبتون منه كما ينبت القمح في سهل خصيب..

الصّداع يشتد على رأسي.. فجأة انقذف إلى عالمي المعهود وزميلتي تقول:

  • أنت اليوم في شأن.. أكلّمك فلا ترد..

أصبحت لعينة هذه النظّارة… ما إن أخالني وضعتها حتّى أجدها على عينيّ، وقد محي من ذاكرتي متى لبستها!

استمراري على هذا النّحو، قد يعجّل بي.. ولا أراني بالغا شمس الغد حتى أكون هالكا أو مجنونا..

سرّ تبدّلي وشقائي، هذه النظّارة.. وسرّ عودتي إلى سالف عهدي هو التخلّص منها..

أطللت من نافذة المكتب التي كانت تفتح من علوّ على طريق عامرة.. تخيّرت عربة ثقيلة كانت تقترب في سرعة.. في مكان ما تحت عجلاتها الكبيرة تركت نظّارتي تسقط إلى هناك.. تنفّست الصّعداء.. وشعرت بالأغلال التي كانت على نفسي تتحطّم.. لكن بعد دقائق معدودة فحسب دخل عليّ رئيسي وفي يده تلك اللّعينة.. قال:

  • أليست هذه لك؟.. جاء بها أحد المارة زاعما أنّه رآها على عينيك قبل أن تدخل..

أسقط في يدي وخيّل إليّ أنّ حجرة المكتب تتحوّل إلى دوّامة مجنونة.. نزلت إلى الشّارع كأني أُجَرّ على وجهي وأنا ماسك عليها بيدي.. السّماء صافية لامعة.. الشّجر أخضر يانع.. ذئاب وثعالب وقرود وخنازير.. اللّعنة.. من الذي ألبسني إيّاها؟

قلت ذلك بعد أن فطنت إلى أنّي أكوّر يدي على الفراغ!

ركبت سيّارتي وأنا بي من الحنق والضّيق ما بي.. شققت زحمة المدينة بنفس يملؤها الظّلام.. فما هي حتّى توغلت في الخلاء ساعة أو بعض ساعة.. تخيّرت مكانا مهجورا لا تطؤه الأقدام عادة.. هناك حفرت حفرة عميقة، ورميتها فيها، ثمّ أهلت عليها التراب والحجارة في تشفّ بالغ..

أخيرا.. أنا من دونها..

ولا تسل عن السّرور الذي غمرني وأنا أشقّ طريقي إلى البيت فلا أرى الدّنيا إلا كما عهدتها.. البشر هم البشر.. والطّبيعة هي هي بلا مساحيق..

فتحت باب منزلي.. قطعت خطوة أو خطوتين.. بغتة توقّفت في مكاني مبهوتا مصدوما..

إنّها النّظّارة مرّة أخرى.. اللّعينة ها هي تستقرّ في سلام على الطّاولة، سليمة معافاة، لامعة العدستين!

صرخت بأعلى صوتي وأنا أضرب على رأسي براحتيّ:

  • لعنة.. أقسم إنّها لعنة !!

في تلك الأثناء كانت زوجتي تمرّ بالقرب منّي.. قالت ضاحكة:

  • تقصد هذه.. ألم تنسها هنا على الطّاولة منذ الصّباح!
  • مستحيل !!

نطقتها بصوت أبح…

في سرداب المنزل.. بحثت عن سنديان ومطرقة… دققتها كما لو كنت أدقّ عنق عدوّ لئيم.. إلى أن صار زجاجها دقيقا وإطارها شظايا صغيرة..

قبل أن أغلق الباب وأنا أمنّي النّفس بالرّاحة والسّلام.. تناهى إليّ صفير خافت، فالتفتّ إلى مصدره، فإذا تلك اللّعينة تُبعث مجدّدا.. يتنادى حطامها جزءا جزءا… ثمّ يلتحم… ثمّ…

رفعت عقيرتي  وحالة من الهستيريا العنيفة تنتابني..

أقبلت عليّ زوجتي.. قادتني إلى غرفتي.. كان وجهها ينطق بما لا أحب.. ذرتني وحيدا.. وخرجت…

ها أنا على شاطئ الأحلام، ليس بيني وبين اليقظة إلاّ كما ما بين نفَسِي ورئتي..

رأيت ذلك الطّيف بكامل جلاله وجماله.. لم ينظر في وجهي كما فعل المرّة السابقة، لكنّه أوحى إليّ بكلمات: “قم ودّع حياتك !! ”

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!