نهاية وردة / بقلم :هـانيــة خانكان ( سوريا )

اعتادَتْ أن تزورَ مكتبتي شابّةٌ لم تتجاوز الرابعة والعشرين من عمرها، تقفُ دوماً عند قسم الكتب الأدبيّة وتطيلُ المكوث هناك وتنتقي كتاباً بعد أن تتفحّصه جيداً ثم تنتقل بهدوءٍ إلى قسم الكتب الفنيّة وتكتب لي على ورقة أسماء بعض الكتب الأوروبيّة التي تلزمها لعملها.

حاولتُ مراراً أن أحرِف اهتمامها إلى الكتب التاريخية وبعض كتب العلوم والتكنولوجيا، إلا أنها كانت تأخذُ منّي كتاباً تاريخياً مجامِلةً إيّاي بابتسامةٍ ثم لا يلبثُ بيدها دقيقتين حتى تعيده لي شاكرةً وكأنها ترغب بالتخلص منه، كنت أقابل فعلها بابتسامةٍ عريضةٍ، فكيف لرجلٍ خمسينيّ مثلي أن يقنع فتاةً عشرينيةً حالمةً، أن تقرأ مجلداً يروي قصصاً واقعيّةً بكلماتٍ جافة؟

ثم تعود إلى الروايات تتصفح أوراقها باستغراق حتى كان يخيل إليّ أن مكان وقوفها يستحيل إلى “حديقة ورد”.

اعتدتُّ رؤيتها بشكلٍ شبه يوميّ، إذ كان طريقها من بيتها إلى عملها يمرّ من مكتبتي، فألمحها دوماً مسرعةً ولكنها لم تنسَ مرةً أن تلقي نظرة ًسريعةً على الواجهة حتى لو مرَّت من أمام المكتبة مرّتين في اليوم ولو لم تدخل.

نحن أصحاب المكتبات، مع الوقت نفهم طبائع زبائننا وميولهم النفسيّة من خلال الكتب التي تستقرُّ في أيديهم الوقت الأطول والتي ينفقون عليها من مالِهم لأجل الاستحواذ عليها.

آخر مرّةٍ اشترَت روايتين ووعدتّها أن أبحث لها عن كتابٍ فنيٍّ ولم تعد.

مرّ وقتٌ طويلٌ، افتقدتُّها حقيقةً كما أفتقدُ أحداً من عائلتي وتساؤلاتٌ بلا أجوبة عبرت بخاطري… أين هي؟ لمَ لمْ تعد تمرُّ من هنا؟ هل تركت عملها أم انتقلت من منزلها؟ أيعقلُ أنها سافرت؟ وشعورٌ خفيٌّ كان يخيفني أن مكروهاً أصابها فأحاول أن أستبعد الفكرة في الحال.

بقيتُ عاماً كاملاً أعرضُ في الواجهة رواياتٍ أعرف أنها ستعجبها فلربّما مرّتْ من هنا…

ذات مساءٍ كنتُ منشغلاً بترتيب بعض الكتب الجديدة، سمعتُ الباب يُغلقُ وخطوات تتقدم ببطء، شعورٌ خفيٌّ أخبرني أنها هي وخوفٌ تملّكني أن ألتفتَ فيخيبُ حدسي حتى قالت: –

مرحباً

كانت هي إذاً، سارعتُ باستقبالها بحفاوةٍ كما تستقبل صديقاً عزيزاً كان مسافراً.

– أهلاً وسهلاً، كيف حالك، لقد مرّ وقتٌ طويل

أجابت باقتضاب: نعم

كعادتها كلماتها مختصرة ولكن كانت ابتسامتها باهتة على غير العادة وكأنها نسخة مزورة، تشبهها ولا تشبهها ولولا قليلٌ من التعقّل لسألتُها: هل هذه أنت حقاً؟

تجوَّلَتْ في الأقسام فأشرتُ لها إلى قسمها المفضل وقلت:

– هنا، هل نسيتِ؟

إلا أنها استدارت إلى قسم الطبخ وبدأت تنتقي من كتبٍ خاصة بالمطبخ..

أثارت استغرابي فلم يسبق لي أن عرفتُ اهتمامها بالطبخ وطلبتْ مني مساعدتها باختيار كتابٍ يحتوي على وجبات شرقيّة وغربيّة..

اخترتُ لها واحداً وتابعتُ:- عندي لكِ رواياتٍ ستعجبك حتماً

– أشكرك، ليس الآن

– ألا تريدين كتاباً فنياً؟

– لا شكراً

– كيف تغيّرَت اهتماماتكِ وكأنّكِ لستِ أنتِ؟

لم تُجِبني وكان الفضول يستحوذ عليَّ وأرغب باستبقائها لأفهم، فقلت لها:- هلّا جلستِ قليلاً؟

نظرتْ إليّ بتردّدٍ، فأعدتُّ الطلب وأنا أشير إلى الكرسيّ: هلّا جلستِ لبضع دقائق من فضلك؟

على طرفِ الكرسيّ جلسَتْ كمن يجلس على حقيبة سفر

– أين كنتِ طوال هذه المدة؟ لم أركِ منذ أكثر من عام!

لقد قلقتُ عليكِ، أكنتِ مسافرة؟

– لا لم أسافر

وقعت عيني على خاتمٍ بإصبع يدها اليسرى

– هل تزوجتِ؟

– نعم

– منذ عام؟

– نعم

– فهمت غيابكِ وأتمنى لك حياة سعيدة.

شكرتني بدون أن تنظر إليّ، كانت شاحبة بالكاد تبتسم، متمسّكة بكتاب الطبخ في حجرها، هذه المرة بدا لي المكان حول جلوسها  رغم جمالِ وجهها، “حديقة شوك”.

– هل أنتِ سعيدة؟

– الحمدلله

كانت تتحاشى النظر إلى عينيّ وكأنها تخبّئ أمراً تخشى أن ينفضح وهمّت بالنهوض، تناولتُ روايةً حديثةً وقدمتُها لها كهديّةٍ مع كتاب الطبخ فرفضَتها…

– أيمكنني أن أعرف سبب رفضك؟

– زوجي لا يحبُّ أن أقرأ الروايات.

– وعملك؟

– لم أعد أعمل، لا يحبّ عملي

تهدّج صوتها وخشيتُ أنني أثقلتُ عليها بفضولي فسارعتُ بالقول: – أنا متأكد أن طبخك لذيذ

فابتسمتْ وغادرتْ بصمت.

شيءٌ داخليٌّ آلمني يومها، لدرجة أنني أقفلتُ مكتبتي مبكراً ومضيت.

بعد عدة أشهر وبينما ألمّع زجاج الواجهة، رأيتها برفقة زوجها، تتحدثُ إليه مبتسمةً، بينما كان وجهه متجهّماً وعابساً لا ينظر إليها، كانا مختلفين تماماً؛ وقفتُ أراقبهما حتى مرّا من جانبي، لم تلتفتْ إلى الواجهة لأول مرةٍ وكأنها لا تعرفها وتابعَت طريقها معه معلِّقةً يدها بذراعه كوردةٍ علِقَتْ في حديقة شوك.

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!