الشاعر رضوان بن شيكار يستضيف الكاتب علي بلجراف في زاويته أسماء وأسئلة

أسماء وأسئلة : إعداد وتقديم : رضوان بن شيكار
تقف هذه السلسلة من الحوارات كل اسبوع مع مبدع اوفنان اوفاعل في احدى المجالات الحيوية في اسئلة سريعة ومقتضبة حول انشغالاته وجديد انتاجه وبعض الجوانب المتعلقة بشخصيته وعوالمه الخاصة.
ضيفة حلقة الأسبوع الكاتب علي بلجراف
1.كيف تعرف نفسك للقراء في سطرين؟
علي بلجراف (والاسم العائلي الحقيقي هو بجراف والتحريف أو التحوير من إدارة الحالة المدنية) متقاعد من الوظيفة العمومية بعد تدرج في العمل من التدريس (مادة الفلسفة) إلى الاشراف التربوي، الذي يسمى رسميا التفتيش التربوي، إلى رئاسة مصلحة الشؤون التربوية بالمديرية الإقليمية لوزارة التربية الوطنية بالناظور.
2.ما ذا تقرأ الآن وما هو أجمل كتاب قرأته؟
أقرأ أشياء متعددة في نفس الوقت. وهذه عادتي في القراءة منذ زمان. في محفظتي الآن كتاب “الأنتروبولوجيا البنيوية” ل “ليفي ستروس” أعيد قراءته للمرة الثالثة على الأقل إلى جانب كتاب آخر لصاحبه عبد الكبير الخطيبي بعنوان “المناضل الطبقي على الطريقة التاوية “( شعر)، ترجمة ، كاظم جهاد. ، كما أقرأ بشكل متزامن كتبا في الفلسفة حملتها من الأنترنيت. لا أركز في القراءة على كتاب واحد أو كاتب واحد إلا لغرض محدد، كأن يكون الهدف إنجاز دراسة حول الكتاب أو الكاتب. عدا ذلك، أنوع قراأتي بما يجعلها تشمل الفنون والفلسفة والاجتماع والسياسة وبعض التدوينات على الأنترنيت أيضا لأن الزمن المعاصر هو أيضا زمن الأنترنيت. كما أنني لا أكتفي بالقراءة، بل أمارس الاستماع أيضا في إطار التنويع، خاصة وأن التكنولوجيات الجديدة للاتصال في ظل الثورة الرقمية المعاصرة، تتيح لنا اليوم سماع أصوات لم نكن نتمكن من سماعها في القرن الماضي رغم إعجابنا بها صوتا وصورة. أقصد بطبيعة الحال أصوات فلاسفة وأدباء ومفكرين في مختلف مجالات علوم الإنسان.
لا أستطيع أن أحدد أجمل كتاب قرأته. فأنا لا أنظر إلى الكتب انطلاقا من معيار الجمال، رغم قيمة وأهمية هذ المعيار. كل ما أستطيع قوله، جوابا عن هذا السؤال، إن هناك نوعا من الإغراء أو الإغواء أو الافتتان Séduction تجعلني أنجذب نحو كتب محددة دون أخرى، ونحو كتاب دون آخرين. والتعدد هنا، يحيل على الوحدة في الأصل والمنطلق. ذلك، لأننا، كما يعلمنا التحليل النفسي، نحب نفس الوجه حتى وإن أحببنا وجوها متعددة. (ههههه) لكن، ما هو هذا الوجه الأول؟ هل هو وجه الأم؟ بعبارة أخرى، ما هو الكتاب الأول الذي نعجب به ونتعلق به لدرجة أننا نراه ونتعقبه في كتب متعددة؟ ليس من السهل الإجابة عن هذا السؤال. غير أن الحكاية، كل الحكاية، تكمن في هذه الصعوبة ذاتها.
3.متى بدأت الكتابة؟ ولماذا تكتب؟
أولا ينبغي أن أقول، بداية، إنني لا أعتبر نفسي كاتبا بالمعنى المتعارف عليه. لا أقول هذا بدافع تواضع “منافق”، بل لأنني لست كذلك في الواقع. لذلك ستكون إجابتي عن هاتين المسألتين المهمتين على هامش مسألة البداية وعلى هامش مسألة الكتابة. لكن الهامش الذي أقصده أريده يقظا وطموحا. وبالمناسبة، فما أصعب التموقع على الهامش، وما أصعب الإجابة عن أسئلتك من موقع الهامش، وذلك لسببين على الأقل: الأول هو التمثل الذي نحمله حول ما هو هامش وما هو هامشي. فالهامش يحيل في تمثلاتنا على ما هو ثانوي، زائد، إضافي، تكميلي، مقارنة مع المركز، المتن… والسبب الثاني هو أن الهامش الذي يريد نفسه يقظا، تقع عليه مسؤولية كبرى هي مسؤولية تفكير المركز وزحزحته ومساءلته. ولكيلا أستفيض في هذا الموضوع، أكتفي بالإشارة إلى أن مفكرين كثيرين في مختلف مجالات الفكر والأدب والفن اعتبروا هامشيين في أزمنتهم، لكنهم تحولوا فيما بعد إلى مراكز، بل مدارس حقيقية في الفكر والمنهج.
شخصيا، بدأت الكتابة، خارج المدرسة، في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي. أحدد هنا، “خارج المدرسة”، لأن الكتابة تتم اول ما تتم تكون داخل مؤسسة المدرسة في البداية بالنسبة، لكل من هم كتاب اليوم. وأنا في مرحلة التعليم الإعدادي، لم أكن أفهم لماذا كان أساتذة اللغة العربية يشيدون بالإنشاأت التي كنت أكتبها، رغم أني لم أكن أبذل في كتابتها مجهودا كبيرا. لكن الانتشاء الأكبر كان عندما نشر لي “إنشاء”/مقال بجريدة “البيان” حول معاناة تلاميذ البادية الريفية غير الداخليين، وأنا واحد منهم طبعا، في مدينة الناظور. (كنا آنذاك ثلة من التلاميذ نقوم بما كان يسمى آنذاك البيع النضالي لجريدة “البيان” في إطار شبيبة حزب التقدم والاشتراكية). وللعلم، فإن كل الناجحين في امتحان شهادة التعليم الابتدائي في إقليم الناظور بكامله، في ذلك الوقت، أي الناظور والدريوش حاليا، كانوا يلتحقون بمدينة الناظور إن هم أرادوا مواصلة تعليمهم في الثانوي الإعدادي والتأهيلي. غير أن الكتابة المنتظمة أو “العالمة” في الملاحق الثقافية ثم التربوية في مختلف الصحف الوطنية والمجلات من خارج المغرب، قد انطلقت منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي ولا زالت متواصلة إلى اليوم.
أما عن السؤال: لماذا تكتب؟ فيمكن أن أقدم بعض العناصر، هي في الواقع، تصورات عامة أشاطرها حول معنى الكتابة، أكثر مما إجابة مباشرة عن السؤال المطروح. أنا أكتب ليس من أجل توصيل أو إيصال رسالة. الرسالات كلف الله بها رسله. أنا أكتب فقط لإسماع صوت/أصوات تعتمل بداخلي وتفرض علي نفسها كرد فعل ربما ضد أصوات أخرى مغايرة لا تعجبني. قد تبدو المسألة ذاتية لكن هذا لا يعني أن القضية شخصية صرفة وأن الرهان ذاتي محض. ذلك، لأن الكتابة الحقيقية هي تلك التي ترفع المشترك الشخصي إلى مستوى القضية الكونية، وإلا فإنها لا تستحق اسمها وصفتها. قلت إن الكتابة عندي تفرض نفسها كفعل ضروري من أجل إعطاء الكلمة للآخرين أو من أجل الكلام باسم من لا يتكلمون، ليس لأنهم لا يملكون القوة الخطابية، بل لأنهم أسكتوا بالقوة. غير أن الأمر لا يتعلق بمجرد أصوات متعددة كما لو كنا في نوع من “بابلون”، بل يتعلق الأمر بتصارع قوى وسلطات. في هذا السياق، تحضرني فكرة معبرة للفيلسوف “جاك دريدا” مفادها أن “كل كتابة تتأسس على مقاومات ولا توجد كتابة إلا حيث توجد مقاومة في صورة كبت أو قمع”. بهذا المعنى، فإن الكتابة فعل مزدوج. فأن أكتب، معناه أن أحرر قوى للكتابة غير مسموعة وغير مسبوقة. غير أن هذا التحرير ذاته لا يتم إلا من خلال إنشاء حواجز ومقاومات أخرى بمثابة بنيات تشتغل من أجل حماية التجاوز والعبور أو التخطي المطلوب تحقيقه (Transgression) فما أن يتم تجاوز عقبة ما أو حاجز ما، حتى ينشأ وينتصب آخر في الطريق. معنى هذا أن للكتابة حساباتها ses calculs كما يقول “دريدا”. ومن حسابات الكتابة عندي شخصيا مراوغة القوى ذات السلطة القمعية على الفكر وعلى التفكير. لذلك، فإن الكتابة تنتصب كمتعة وكضرورة في نفس الوقت لمجاهدة ما هو واقع.
4.ما هي المدينة التي تسكنك ويجتاحك الحنين إلى التسكع في أزقتها وبين دروبها؟
ولدت وعشت طفولتي الأولى، أي قبل الالتحاق بالتعليم الثانوي، في دوار رهوانة “إرهوانن” أما الاسم المعروف الذي يجمع دواوير البلدة كلها هو “إِثْرانْ” أو “إثرارن” “طرارا”Trara بالنطق الإسباني والقبيلة الجامعة هي بني شيكر “آثْشِيشَارْ”. بما أن الولادة والطفولة كانتا بالبادية، فإن أول مدينة اكتشفتها هي مليلية المحتلة. لم تخل هذه العلاقة الأولى من دهشة ومن انبهار موشومين في الذاكرة. في هذه المدينة جربنا، أنا وأبناء جيلي، الكثير مما يمكن أن يندرج ضمن شغب وتسكع الطفولة ومتع الحياة بعد ذلك لكن هذا كله حدث في سن مبكر. بعد مليلية تعلمت العيش المشترك في مدينتين أخريين هما على التوالي الناظور وفاس. وإذا كان الحنين إلى الناظور غير موجود لأنها مدينة الإقامة والاستقرار، فإن فاس تظل هي مدينة أحلام وذكريات مرحلة الشباب.
5.هل أنت راض على إنتاجاتك وما هي أعمالك المقبلة؟
أولا، الرضا مسألة نسبية، لذلك فبما أن إنتاجاتي غير منتهية، فأنا على طريق الرضا ولست في قمته ولا أتصور كاتبا في هذه القمة. ثانيا، وعلاقة بمسألة الرضا، ينتابني إحساس بضرورة الاعتذار للمتلقي. وقد يبدو هذا الإحساس منافيا للرضا. والحال أن الأمر ليس كذلك. لأن الكتابة هي في العمق نوع من التعري أمام الملأ أو من “قلة حياء” يوجب الاعتذار الدائم للمتلقي. هي إذن مسألة عادية وطبيعية. لقد تحدث فرويد عما يسمى “أحلام الطفل العاري”. فالواحد منا يحلم أنه يتجول عاريا ثم يستيقظ مذعورا معتقدا أن الآخرين يرون سوأته. لكن، ثمة سببا آخر يوجب الاعتذار للمتلقي آت من الكتابة بما هي “أثر” أو من “الأثر” الذي تخلفه الكتابة. أن تخلف الكتابة أثرا، معناه أنها تنتهك خصوصية وتفرد المتلقي. فبمجرد أن تصبح العبارة مكتوبة في لغة محددة وقابلة للقراءة، أي بمجرد أن تصبح أثرا قابلا للفرز والفك، حتى وإن كانت هذه العبارة موجهة لشخص محدد تخصه هو وحده، مثل عبارة “أحبك” الحميمية، فإن ذلك يؤدي إلى فقدان خصوصية وحميمية وتفرد المرسل إليه أو المرسل إليها. إن الكاتب بمجرد أن يكتب، فإنه ينفي، بل يجرح أيضا، هوية وخصوصية وتفرد المرسل إليه. ذلك، لأن المكتوب يتعمم حتى وإن كان موجها بشكل خاص إلى هذا الشخص أو ذاك تحديدا، ويصبح في مرمى العموم. بهذا المعنى، فإن الكتابة خيانة، تستوجب الاعتذار عن “الإثم” الملازم والناتج عن كون الكاتب يكتب ويوقع باسمه. كل هذا يؤكد إذن مسألة نسبية الرضا عن المنجز الكتابي، لكن بالمعنى الأخلاقي العام.
أما بخصوص المشاريع المستقبلية فأنا في انتظار صدور كتاب حول “مشروع قراءة محمد شحرور للذكر: منطلقات وآفاق”، وآخر حول “النقد والاستباق في الفلسفة: قضايا في الاختلاف والتقنية”. وضمن المشاريع أيضا كتاب حول “المضمون الاجتماعي والرمزي لعادات وطقوس الزواج في الريف المغربي”، وهو تطوير لبحثي الأصلي لنيل الإجازة في علم الاجتماع الذي أنجزته تحت إشراف أستاذي الدكتور بوزيان بوشنفاتي رحمه الله.
6.متى ستحرق أوراقك الإبداعية وتعتزل الكتابة؟
لا أتصور أنني سأقوم بعمل يشبه العمل الذي قام به “طارق” الذي لم يفتح الأندلس (هذه العبارة مستعارة وليست لي) عندما أحرق مراكبه لكي يكون هو وأصحابه أمام خيار وحيد هو المواجهة والقتال. أشرت في إجابة عن سؤال سابق إلى أنني أكتب لإسماع صوت ضد صوت أو أصوات مهيمنة ومستبدة. فأنا لا أدعي غزو ولا فتح أي قارة، فكل القارات صارت اليوم مفتوحة. وأتصور أن الكتابة، كل الكتابة، هي هكذا. لكن، هناك دائما “شيء من حتى”، كما يقال. فعلى خلاف الكتابة الإبداعية التي تتيح إمكانيات متعددة للبيان والتبيين وأيضا للالتفاف على الحواجز والعراقيل المنتصبة في الطريق، فإن طبيعة الكتابة التي أمارسها، حتى وإن زعمت أنها تتحدث من موقع الحقيقة (الفلسفية و/أو العلمية)، فإنها لا تستطيع الفكاك من ضرب من “السجال”، صراحة أو ضمنا مع تلك الأصوات المهيمنة والمستبدة. ذلك، لأن عمل النقد الفلسفي غالبا ما يتم تلقيه كعمل مقلق ومزعزع بالنسبة للآخرين، بل وجارح أيضا في بعض الأحيان، تجاه مفكرين مرموقين وتجاه مؤسسات وسلطات متعددة. لعل هذا ما يجعلني أعيش أحيانا لحظات من الذعر بسبب ما أحس، داخليا، أنه تطاول مني تجاه أنماط مختلفة من السلطة: نصية كانت أو شخصية أو مؤسسية. يحذرني إحساسي ذاك من مغبة ما أكتبه ويدعوني إلى إيقاف ما أكون بصدد كتابته وإلى إحراق أوراقي. لكن الغريب أن هذا الإحساس يشتغل فقط في لحظات أكون فيها بين اليقظة والنوم، إذ بمجرد عودة الوعي يعود الإصرار على الاستمرار. إذن، بما أن الكتابة حاجة حيوية وضرورة، فمن الصعب التوقف عن ممارستها. فقد تحرق أوراق الكاتب، وقد أحرقت أوراق كتاب فعلا، لكن الكاتب لا يحرق أوراقه بنفسه.
7.ما هو العمل الذي تمنيت أن تكون كاتبه؟ وهل لك طقوس خاصة للكتابة؟
لا توجد عندي هذه الأمنية لسببين رئيسيين بسيطين. الأول هو أنها أمنية مستحيلة. ذلك، لأن لا أحد يستطيع الكتابة مكان الآخر. بعبارة أخرى، كل كتابة تحمل بصمة شخصية متميزة ومتفردة. كل كتابة هي اختلاف حتى وإن تغيت والتمست المطابقة والتطابق. والسبب الثاني هو أنني لا أجد ما يحول دون تمكني من كتابة ما قد أتمناه في كتابات الآخرين. بعبارة أخرى، بإمكان أي كاتب أن يلتقط ما يغويه من كتابات الآخرين ويستعمله لحسابه الخاص وبطريقته الخاصة. ذلك، لأن كل كتابة هي في العمق تناص، أي تداخل وتعالق بين نصوص متعددة ومختلفة.
أنا أومن بمسألة الطقوس في الكتابة. لا توجد كتابة في نظري خارج طقوس محددة. قد تتشابه طقوس الكتابة وقد تختلف من كاتب لآخر. يدخل المكان ضمن طقوس الكتابة بالنسبة لي. الحيز المكاني الأقل صخبا في المقهى هو مكاني المفضل للكتابة. وقبل أن تأخذ المادة المكتوبة شكلها النهائي عندي (ها بإمكانها أن تأخذ شكلا نهائيا؟) تكون عبارة عن كتابة شذرية (عناصر متفرقة). لقد صار الحاسوب اليوم أداة ممتازة تيسر عمل الكتابة. أقول هذا لأنني مارست الكتابة قبل انتشار الحاسوب وبعده وعانيت من قسوة الكتابة في مرحلة ما قبل جهاز الحاسوب. ثمة مسألة أعاني منها في الكتابة هي صعوبة استقرار النص المكتوب عندي على حال نهائي. فكلما أعدت قراءة نص مكتوب من نصوصي إلا وعدلت فيه أشياء، حتى وإن تكررت إعادة القراءة مرات عديدة.
8.هل للمبدع والمثقف دور فعلي ومؤثر في المنظومة الاجتماعية التي يعيش فيها ويتفاعل معها أم هو مجرد مغرد خارج السرب؟
هذا سؤال يصعب البت فيه بشكل حاسم ومطلق ونهائي. السبب في نظري هو أنه سؤال كوني شامل. وبما هو كذلك، فإن عناصر تطارحه وتحليله مشروطة بخصوصيات كل مرحلة من مراحل التاريخ. على هامش هذا السؤال وبالعلاقة معه، تم تداول مفاهيم وأطروحات كثيرة معروفة مثل: المثقف العضوي ومسؤوليته النضالية والطليعية إلى جانب الجماهير، الالتزام، رسالة المثقف… يبدو لي أن مفهوم المثقف اليوم أو المثقف المعاصر، خلافا للمثقف التقليدي، صار مرتبطا بمفهوم الخبرة في المجالات التخصصية المختلفة. المثقف هو من يمتلك خبرة (المعارف والتقنيات) في مجال تخصصه يعرضها في السوق لمن يهمه الأمر ليس بدون مقابل. بينما كان المثقف التقليدي والمثقف الحديث أيضا يزاوج بين الوظيفة (العمومية أو الخاصة) والتطوع أو العمل النضالي من أجل الصالح العام. مع ذلك، فإن المثقف بالمفهوم الجديد لا يوجد على هامش التاريخ، بل منخرط فيه كفاعل رئيسي، لكن بمنطق المتحكمين في الأحداث والقرارات، فهو عنصر فاعل ضمن الفريق الذي يسهر على ما يسمى “صناعة القرار” يشارك ويساهم في صنع القرار قبل اتخاذه. أما بقايا المثقف بمفهوم “غرامشي” أي المثقف العضوي المناضل والملتزم بقضايا الجماهير، فلا يزال يكابد، بما هو متاح له من إمكانيات ووسائل، ولم يفقد الأمل في قلب الموازين لصالح الشعوب، وإن كانت التغيرات الكبرى التي عرفتها الإنسانية منذ، خمسينيات القرن الماضي قد غيرت مفاهيم كلاسيكية كثيرة وفي مقدمتها مفهوم الإنسان ومفهوم الإنسانية نفسه.
9.ماذا يعني لك العيش في عزلة إجبارية وربما حرية أقل؟ وهل العزلة قيد أم حرية بالنسبة للكاتب؟
لا توجد عزلة إجبارية إلا بالحرمان من الحرية أي بالإيداع في السجن. بالمقابل يمكن أن الحديث عن عزلة اختيارية يختارها الفرد/الكاتب. في هذه الحالة لا تتعارض العزلة مع الحرية، بل الحرية تقتضي في بعض الأحيان العزلة، أي اعتزال الناس. تحضرني هنا حكاية تسمية فرقة “المعتزلة” في تاريخ الفكر الإسلامي. هؤلاء أطلقت عليهم تسمية “معتزلة” من طرف خصومهم الفكريين لأن زعيمهم “واصل بن عطاء” اعتزل. السؤال هو: ماذا اعتزل المعتزلة؟ ولأجل ماذا؟ اعتزلوا سجن الأفكار والأطروحات النقلية التي تجمع عليها الفرق والمذاهب الأخرى السائدة من أجل حريتهم الفكرية. الكاتب، حتى وإن اختار العزلة، فإنه لا يكون أبدا في عزلة بل هو في سفر دائم. والسفر والحكاية (السرد) حياة مع الناس. ألم تواجه “شهرزاد” الموت بالحكي؟ أليست مادة الحكي هي الأسفار؟
10.شخصية من الماضي ترغب لقاءها ولماذا؟
لقاء ومجاورة الشخصيات المرغوبة من الماضي هو دائما أمر ممكن في الحاضر. مؤخرا مثلا، قادتني القراءة إلى لقاء شخصية من تاريخ شمال أفريقيا معروفة ومكبوتة ومشوهة في بعض الكتابات الكلاسيكية. يتعلق الأمر ب “ديهيا” أوDihya ، القائدة الأمازيغية المعروفة. تاريخها وبطولاتها يغريان بالتعرف عليها. يكفي أن أذكر أنها أسست لنمط جديد من العلاقة بين الجماعات الاجتماعية في شمال أفريقيا هي علاقة “الملح” أو “الطعام” تنضاف هذه العلاقة التي تنسب لهذه القائدة إلى علاقة الدم والنسب. فلقد عملت “ديهيا” التي حرفوا اسمها عمدا أو جهلا، إلى “الداهية”، على أن يتقاسم أحد أسراها العرب طعاما على ثدييها مع أولادها ليصير أخا لهم. فنحن هنا نقول: شركنا الملح، شركنا الطعام، إذن نحن إخوة. (في مشروع كتاب لي حول طقوس الزواج أتناول هذا الموضوع بشيء من التفصيل)
11.ماذا كنت ستغير في حياتك لو أتيحت لك فرصة البدء من جديد ولماذا؟
لعل أقسى ما يمكن أن يندم عليه الإنسان، بما هو إنسان، هو الإساءة العمدية لإنسان آخر. فإذا صرت متأكدا، اليوم أوغدا، من أنني، في يوم ما وفي موقف ما، تعمدت الإساءة إلى شخص ما، أعرفه جيدا أو لا أعرفه، لأي سبب من الأسباب، آنذاك، سأقول مع نفسي آه لو تمكنت من إعادة حياتي من جديد، لأتمكن من تغيير ذلك وتصحيح ما فعلته. عدا هذا، لا ينتابني الندم على أي شيء آخر فعلته في مسار حياتي.
12.ماذا يبقى حين نفقد الأشياء؟ الذكريات أم الفراغ؟
هذا سؤال فلسفي وجودي لا أستطيع الإجابة عنه بالقطع، ولكن دعني أتأمل مفهوم الفراغ فيه. أكيد أن اللفظ المقابل للفراغ هو الامتلاء. ولكن، هل من الممكن تصور امتلاء بدون فراغ؟ الجواب بديهي. ينسحب هذا التساؤل، بديهي الجواب، ربما على كل الأزواج المفهومية المتضادة بدأ من الوجود والعدم والحياة والموت والفوق والتحت… فمفهوم الفراغ في علاقته بالامتلاء يعتبر رئيسيا في الفلسفات الشرقية القديمة وفي مقدمتها الفلسفة الطاوية وفي الفلسفة اليونانية القديمة لما قبل سقراط أيضا. لفظ الفقد في نفس سؤالك هو أيضا يحتاج إلى وقفة. الفقد أو الفقدان يعني الخسارة ويقابله الربح أو الكسب. يبدو أن الإنسان هو الكائن الأكثر تعرضا للفقد، لكن المفارقة هي أن الإنسان هو الكائن الأكثر كسبا وربحا في الوجود. سأوضح المسألة بمثال ملموس. المعادون للتكنولوجيات الجديدة في مجال الاتصال والتواصل في ظل الثورة الرقمية المعاصرة، يشتكون اليوم قائلين: لقد فقد الإنسان الذاكرة لأنه صار يعتمد كلية على الذاكرة الآلية الاصطناعية. فهؤلاء ينسون أن الإنسان لم يفقد الذاكرة، بل تحرر من ثقلها. تجسد هذا التحرر في “تخارج” الذاكرة Externalisation حيث صارت محمولة في يده أي في هاتفه المحمول أو أمامه على مكتبه في جهاز الحاسوب. ولأن الإنسان تحرر من ضغط الذاكرة، فقد صار بإمكانه أن يكرس كامل طاقته ووقته لشحذ ذكائه بدل شحن ذاكرته بمعلومات صارت في متناوله وقتما احتاجها. فما هو حجم الخسارة والربح في هذا الفقدان المزعوم إذن؟
13. الكتابة لا تأتي من فراغ، بل لابد من وجود محركات مكانية وزمانية. حدثنا عن كتابك الصادر مؤخرا “الرسم موضوعا للتفلسف”. كيف كتب وفي أي ظرف؟
بداية، حول محركات الكتابة، ولا أخفي إعجابي بعبارتك الذكية هذه أستاذ رضوان، أقول إن المحرك الرئيس للكتابة هي القراءة. والقراءة، بمعنى ما، هي نوع من إماطة اللثام عن “الحسابات” (calculs) المستحضرة من طرف الكاتب لحماية الذات على طريق عبور وتجاوز العراقيل والإكراهات. لا ترتبط هذه “الحسابات” ضرورة بالأنا أو الذات على مستوى الوعي، فاللاوعي أيضا له حساباته. وإجمالا، فإن للكتابة حساباتها ومهمة القراءة، بماهي شرط للكتابة، هي الحفر في النصوص من أجل إظهار حسابات الكتابة موضوع القراءة. بالمناسبة، فإن فعل الرسم هدفه هو الإظهار Rendre visible إظهار ما لا يظهر تلقائيا. (وهذه مسألة وقفت عندها مليا في الكتاب.)
أما بخصوص ظروف ظهور الكتاب الصادر مؤخرا فقد جاء كتتويج لمسلسل من القراءة والاستماع والمشاهدة. والمفكر/الفيلسوف الذي أطلق هذا المسلسل وشدني إليه هو “جيل دولوز”. يقع هذا الكتاب على هامش مزدوج: هامش الفن وهامش الفلسفة. وعلى عكس ما قد يعتقده البعض منا، فإن العلاقة وطيدة بين فن الرسم والفلسفة، وذلك ربما لما لهما من أهمية في حياة الإنسان على الدوام. لا أنكر أن ظروف الحجر المنزلي بسبب “كوفيد 19” قد ساعدت على مضاعفة مجهود القراءة والكتابة بصفة عامة. (وقد كتبت مقالا منشورا عن الموضوع يقع على هامشي الفلسفة والعلم). غير أن اهتماماتي الرئيسية في القراءة والكتابة، أعني القضايا الرئيسية التي تستهويني قديمة وليست وليدة أي ظرفية طارئة. فتفكير “جيل دولوز” في الفلسفة والآداب والفنون المختلفة استهواني منذ مدة، لذلك، يمكن القول إن الكتاب جاء تتويجا لاشتغالات جزئية مستمرة في الزمن حول الموضوع وحول “دولوز” بشكل عام.
14.ما جدوى هذه الكتابات وما علاقتها بالواقع الذي نعيشه؟ وهل يحتاجها
الإنسان ليسكن الأرض؟
أفهم المقصود من عبارة “هذه الكتابات” في السؤال، هو الكتابات التي تتناول الفن والتفلسف. لذلك، ستكون الإجابة قائمة على هذا الفهم. لو لم تكن الحاجة إلى هذه الكتابات قائمة من أجل عمارة الأرض، لما كلف الكتاب نفوسهم عناء الكتابة فيها ولما كلفت أنا نفسي معهم هذا العناء. أن تكون هذه الحاجة قائمة، سواء فعلا أم كمجرد أوهام يعيشها الكتاب، فالأمر سيان، خاصة إذا علمنا أن الأوهام و”اليوتوبيات”، كانت وستظل دائما ضرورية لعمارة الأرض مثلها مثل ” الديستوبيات” ( الواقع الحقيقي المؤلم). أليس كذلك؟ وحتى لا يبقى كلامي عاما، ولو أنني أحب الكلام العام القابل للجر في اتجاهات مختلفة(هههه)، سوف أبرر قيمة وأهمية “هذه الكتابات” كما أراها أو كما أتوهمها وأحلم بها إذ الأمر عندي سيان. إن الكتابة في الفلسفة وفي الفن من شانها أن تلبي حاجة مجتمعية مزدوجة: فالكتابة في الفلسفة تساهم في ردم الهوة التاريخية بين الفلسفة والجمهور القارئ، قصد الاستفادة مما توفره الفلسفة من إمكانيات في مجال التربية على الحرية والديموقراطية وعلى قيم الاحترام وقبول الآخر كأساس للعيش المشترك القائم على مبدأ المواطنة في المجتمع المعاصر كبديل وكتجاوز لمختلف أشكال الانتماء الطائفي والعرقي واللغوي الضيقة. هذا فيما يخص الفلسفة. أما بخصوص الفن، فإن جدواه وحاجتنا إليه في حياتنا المعاصرة غير خافيتين. ذلك، لأن الفن يحقق “السمو” و”التعالي”، بالمعنى الكانطي transcendance) La) على التجربة الحياتية الجزئية في حياة الإنسان. إن هذا السمو هو، بمعنى ما، ما يؤسس إنسانية الإنسان واجتماعيته، إن على مستوى إدراك الأشياء، أو على مستوى الأحاسيس والمشاعر والانفعالات والعواطف، بنقلها من مستوى أدنى إلى مستوى أعلى، من مستوى الإدراك الشخصي المعيش والفاني، إلى مستوى المؤثر الإدراكي المستدام (Le percept)، ومن مستوى الأحاسيس والمشاعر والعواطف والانفعالات المعيشة الشخصية إلى مستوى المؤثر الانفعاليL’affect العام المشترك والمستدام. فالإنسان عموما، والإنسان المعاصر على الخصوص، إن كان ملزما بتدبير اختلافه، المتعدد الصور والأشكال، بالطرق والوسائل الديموقراطية المتعارف عليها كونيا، فإنه غير قادر، في نفس الوقت، على الاستغناء عن البعد الفني والجمالي في حياته. لعل هذه العلاقة الأنطولوجية بين الفلسفة والفن والحياة، هي ما حمل الفيلسوف “هايدغر” على اعتبار الشاعر المعروف “هولدرلينغ” آخر الشعراء الكونيين لأنه، في نظره، يقول الكون/العالم/ الوجود شعريا.
15.كيف ترى تجربة النشر في مواقع التواصل الاجتماعي؟
ثمة فرق صارخ بين الإخبار والنشر في العالم القديم والإخبار والنشر في العالم الجديد (المقصود بالعالمين هنا: ما قبل وما بعد الثورة الرقمية المعاصرة) . لم يكن يوجد إخبار ولا نشر معلومات ولا تواصل في الماضي خارج نظام الرقابة المباشرة أو غير المباشرة. فعندما نخبرك ونطلعك على معلومات، فإننا نقول لك ما يتوجب عليك اعتقاده. هذا هو الإخبار ونشر المعلومات والتواصل. خارج هذه الكلمات /الأوامر لا وجود للأخبار ولا للتواصل. هذا أمر واضح وهو يعنينا اليوم بصفة خاصة.” غير هذا، حتى وإن كان ينطبق على مرحلة سابقة، فإنه لا ينبغي أن يعمي أبصارنا عن رؤية التحول الكبير الذي حدث في الوقت الراهن على الأقل، على مستوى بث وتلقي المعلومات في ظل الثورة الرقمية الحالية. فلقد تمت عملية كسر وقلب هرم التواصل القديم، القائم على “خصوصية البث وعمومية التلقي”، حيث أصبح من يبثون المعلومات اليوم بعدد المتلقين تقريبا. (الكل يبث والكل يتلقى) هل معنى هذا أن ظهور مواقع التواصل الاجتماعي قد عمل على دمقرطة التواصل؟ الجواب نعم ولا في نفس الوقت.
قد تستفيد العلوم الآداب والفنون من وظيفة الإخبار على مواقع التواصل الاجتماعي لكن هل هذه المواقع في صورتها الراهنة ملائمة للنشر، نشر العلم والفن والإبداع؟ الإجابة بالإيجاب عن هذا السؤال تحتاج في نظري إلى مزيد من الوقت، لأن الواقع اليوم يري أن هذه المواقع إن كانت تتيح الإخبار وتقاسم المعلومات على نطاق واسع، فإنها لا تتقاسم المعرفة “العالمة” بشكل مكثف كما تتقاسم المعرفة “العامية”، لأن حجم الإقبال على المادة المعروضة هو المحدد للنشر، والإقبال المكثف يقع لحد الآن على “العامي” وعلى “المثير” و”الفضائحي”. لكن، كيفما كان الحال، فإن الرهان يقع اليوم على مؤسسة التربية والتعليم، وعلى الأجيال الصاعدة من أجل ملاءمة المؤسسات والأعمال مع الواقع الجديد الحالي، واقع الثورة الرقمية. فإذا كان العلم دائما هو ما يلقنه الراشد للطفل، فإن التقنية اليوم هي ما يلقنه الصغار للكبار. من هنا أهمية تملك هذه التقنية الجديدة.
16.أجمل وأسوء ذكرى في حياتك؟
أجمل الذكريات في حياتي ترتبط بالولادات. ولادات أبنائي وبناتي وولادة “بنات أفكاري”. لا أدري لماذا سميت “بنات الأفكار”؟ وهو شيء جميل طبعا. أما أسوء الذكريات على الإطلاق فترتبط بالوفيات، وفيات الأعزاء أمي وأبي وأخي الأكبر. الثلاثة كان دورهم وحضورهم إلى جانبي كبيرين في حياتي الدراسية.
17.كلمة أخيرة أو شيء ترغب في الحديث عنه؟
أتقدم إليك أستاذ رضوان بالشكر على إعطائي الكلمة وعلى مساهمتك القيمة في تحريك العمل الثقافي والجمعوي على مستوى مدينة الناظور.

عن رضوان بن شيكار

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *