ألأبعاد الجمالية و الدلالية في قصيدة الجدار القديم للشاعر التونسي البشير عبيد

آفاق حرة 
كتب الناقد / عبد الحسين الشيخ علي
البشير عبيد الشاعر التونسي المثابر في ايجاد ابلغ الصور الشعرية للتعبير عن ما يدور من احداث في محيطه الاجتماعي والسياسي اذا فأن من الامور المهمة التي يجب توفرها في الكاتب هو الفنية الشعرية في نقل الواقع الحركي والملموس والمسموع والمرئي الى صور شعرية لها وقعها في ذهنية المُتلقي كـــ أنساق داخلية ضمن السياق العام للقصيدة وهذا يتطلب الملاحظة والتفاعلية وايجاد الفكرة لتكتمل الصور بنسبة متقاربة مع الحدث واستثمار كل الموجودات في تحقيق نسبة من الغائية النفسية لسد ولو جزء بسيط من حاجة الشاعر في تفتيت المخزون الحسي الضاغط من الداخل والخارج . وبما ان المُتلقي هو كاتب أخر للنص لذلك سنحاول المقاربة ما بين قصدية الشاعر وأُفق التوقع لدينا في تحليل النص .
البشير عبيد في قصيدته ( الجدار القديم ) استنفر في ذاته مفردات الطبيعة وحركة الشخوص في مشهد درامي يصف فيه حقبة تاريخية سياسية مرت على بلاده .
ففي المقطع الاول والذي ينتهي بــ ( بلا مياه أو موسيقى ) يُظهر الشاعر مشهد درامي محفوف بالترقب لحدث ما ينتاب ابناء القرى في موسم الشتاء حيث الثلوج والصقيع , فلماذا هاجر الفتيان البلاد ؟ وما هو اليوم الجديد الذي تحلم به الصبايا ؟ ان هذا التساؤل نجد له جوابا في وجود سلطة حاكمة تمثلت بجملة ( الحرس القديم ) اذا هو يشير الى مرحلة سياسية وسلطة اداتها الحرس الذي يقمع الحريات ويجبر الفتيان على الهروب وان هنالك حراك ثوري ضد هذه السلطة بدلالة ترقب الصبايا الحالمات بيوم جديد اي بحياة جديدة لا يأس فيها ولا خذلان كما عبّر , لذلك نجد ان رجال السلطة ينتشرون في الاقاليم البعيدة بعرباتهم المصفحة لقمع الثورة الشعبية التي حدثت في تونس في عام 2011 .

في المقطع الاتي والذي يبدأ بــ ( شتاء المدن أضواء وضجيج ) الى (ولم تنس الصبايا العاشقات , الينابيع والتلال ) ,
هنا انتقالة مكانية في موسم واحد اي الانتقالة من القرى الى المدن ثم يبدأ بالوصف بجمل معبرة عن حالة المدن وما يصاحبها من اضواء يرافقه الضجيج والحركة وهو بالتضاد من هوية القرى الهادئة والتي يغفو على اسطح بنايتها الثلج , وفي تلك الانتقالة تتبدل لديه المفردات والجمل الشعرية بطبيعة الحال حيث البنايات التي تغمر المدينة لربما يجد نفسه وحيدا وغريبا على اجواء المدن فقد تعود على طريقة عيش اهل القرى حيث / الزهر / و / اللوز / و/ والافق البعيد / ويبدو ذلك في التساؤل لديه في تلك الجملة / كيف لي ان اغادر القرى مثخنا بالسؤال اليتيم / فيبدو ان التساؤل عن تلك البنايات والقصور التي بناها الساسة المتسلطون حيث يتجلى ذلك في سؤاله اليتيم : من اين لكم هذا ؟ كأنه اندهاش بدى عليه حين رأى تلك القصور بعد نهاية السلطة على يد الشعب وظهر ما كان تخفيه عنهم , ان الشاعر بشير يعيش في تلك اللحظات حالة من التساؤل المستمر عن حقيقة ما جرى وما موقعه في هذه الامكنة فهو بين اقبال على المدينة بعد التغيير وادباره عنها متذكراً حياته في القرى فليس كل ما تقوله الامهات هو ما يرجوه من العيش بعيدا عن ذكرياته وجمال الطبيعة / ايتها الامكنة القصية .. كيف لي ان انام وحيدا قرب الجدار القديم / اذا فهو نداء يخاطب به تلك الاماكن التي عاشها في القرى , انه خطاب ذاتي وتساؤل تتلوه روحه المفارقة لجذورها الزمكانية لربما تريد العودة الى محل استقرارها وهدوئها حيث الصبايا الحالمات والينابيع والتلال والزهر واللوز بعيدا عن الصخب في المدن الذي لم يتعوده .

في المقطع الذي يبدأ بـــ (ايتها الروح أنا لا أخاف من الانكسار ) الـــى (و الحنين بوصلة الهاربين من الاسوار ) يبدأ بنداء تحفيزي او ربما استنكاري لروحه كأنها مرت بلحظات ضعف وخوف من امر ما احاط به واثار في نفسه هذا الخوف ( انا لا اخاف الانكسار ) كأنه يوبخها حين يقول / كم من العمر مضى / بمعنى ان الرحيل هو الحقيقة والنهاية ألآزلية في كل الاحوال فَلِمَ الخوف تحت سطوة الجلاد فالمصير هو النهاية لكنه يريد نهاية تُرضي ذاته المتوثبة والآبية فهو لا يريد ان ينتهي بعلةٍ تجعله في معاناة وآمد طويل من المعاناة والنهاية هي الموت ايضا لذلك شبه نفسه بالزهرة الفتية المشاكسة للسيف والموت وهو بصحته وعنفوانه ضد الظلم خير من الموت عليل والنهاية مُحتّمة لذلك جاء التوبيخ لنفسه الخائفة من مقصلة السلطة في بلادٍ تعودت الرحيل بصمت لذلك فهو يستذكر الاجداد وما قدموه من تضحيات ودماء من أجل العيش بكرامة كأنه دافع له بالصمود وعدم الجنوح للخوف . وفي هذا المقطع يتجلى الصراع مع النفس المؤدلجة للخضوع وثورة الذات الرافضة لهذا الخضوع والانكسار المستمر والموت كالعجائز من العوز والمرض لذلك نجده رافضاً لهذه ألآدلجة المستمرة التي تسيء الى ماضيه الثائر ضد اي انكسار وهزيمة لذا فقد جعل من الحنين الى ماضي الاجداد وامجادهم سبيلا للهروب من هذه الانفاق المظلمة والاسوار المحفوفة بالمخاطر لنيل الحرية .

في المقطع الاخير والذي يبدأ بــ (شتاء القرى ثلوج و صقيع ) الى نهاية القصيدة هنا تتغير لهجة الشاعر اذ يبدو ان التغيير الذي حصل قد بعث الحياة من جديد في القرى والشتاء بدى بصورة اخرى اكثر فاعلية وشاعرية فلا حرس قديم ولا عربات مصفحة بل مباهج وسفر الى الاعالي كانه يعود تارة اخرى الى حيث مستقر روحه والجدار القديم وهو تعبير زمكاني ربما يمثل له لقاء اصدقائه القدامى او ذكرياته وتغير في الشعور نحو الايجاب بعدما عانت القرى ما عانت من قهر ومسارات عوجاء بفعل السياسات القمعية , انه يخاطب روحه من جديد لكنه خطاب ونداء لها بالانفتاح وعدم الخوف فكل المخاطر قد زالت وان اليوم الجديد الذي حلمت به الصبايا قد تحقق وعاد الفتية الى قراهم ..

الخاتمة / تنتمي قصيدة البشير الى الواقعية التي هي مصدر مهم في إذكاء الروح الشاعرية لدى الكاتب فقد وظّف ثيمات الطبيعة والطبيعة المشيدة في تراكيبه الشعرية لما للطبيعة والبيئة من تأثير سايكلوجي وشاعري في اختيار الجمل الشعرية اضافة للحدث السياسي فكان فاعلا في قصيدته كذلك وجود منولوج في بعض مقاطع القصيدة هذا من الناحية الادبية اما من الناحية الفنية تمكن من توظيف تلك الثيمات اضافة لكونه فاعلا في المجتمع والمجتمع كذلك فانه جمع ما بين طبيعة عيش اهل القرى وفاعلية المدينة وطبيعتها المعيشية على اهل القرى والجو السياسي الذي يُلقي بظلاله علىها ,
اما عنوان القصيدة ففيه انبعاث وجداني وتحفيزي لدى الشاعر كأنه يُعبر عن الاصالة والوجدان الحقيقي التفاعلي والثوري لما يحمله من طبيعة فطرية لا تقبل بانصاف الحلول والعيش بكرامة وعفوية واعتبره الكاتب مصدر الهام له لما يحمل من ذكريات الاجداد .

الجدار القديم

شتاء القرى ثلوج و صقيع
و البلاد التي هاجرها الفتيان
صار بامكانها الان نشر الغسيل
قبل مغيب المرحلة
هنا الصبايا الحالمات بيوم جديد
لا ياس فيه و لا خذلان
الحرس القديم يدق نواقيس الخطر
و الاقاليم البعيدة تباغتها العربات
بلا مياه أو موسبقى

شتاء المدن اضواء و ضجيج
و انفتاح المرء على مرايا
الروح
ليس ما تقوله الامهات صبيحة الاحد
هو المنتهى و المرتجى
بل هو التجلي و البناء
ايتها الامكنة القصية..كيف لي ان انام
وحيداً قرب الجدار القديم
بلا زهر أو لوز أو افق بعيد
كيف لي ان أغادر القرى مثخنا
بالسؤال اليتيم:
من اين لكم هذا؟
من أي مكان من اقاليم الأرض
باغتتنا تفاصيل الحكاية
و لم تنس الصبايا العاشقات
الينابيع و التلال
ايتها الروح أنا لا أخاف من الانكسار
و لا أنحني للعاصفة
سريعا تاخذني خطاي إلى المدى
و لا ترتبك الانامل حين تلمسها
المقصلة
كم من العمر مضى و البلاد المتاخمة للهذيان
ليس لها من سبيل سوى الرحيل
إلى دهشة الرؤيا…
و ارتماء الجسد العليل في النفق
الطويل
حالما بالزهرة المشاكسة للسيف
يمر امام القصور و ما انتجته السنوات
العجاف
الاصابع لا ترتبك
الاجساد المنهكة
لا تنام على ارصفة القرى قبل المغيب
الحكايا و الزوايا وانفلات الصوت
من غموض الملحمة
ليس في المكان القصي تلال
و لا عشاق قدامى
بل ورقات مكتوبة بدم الاجداد
و الحنين بوصلة الهاربين من الاسوار

شتاء القرى ثلوج و صقيع
و انفتاح المرء على مرايا
العناق الأخير
للجسد الباحث عن لحظات التجلي
مباهج و سفر إلى الاعالي
للروح الاتية من بعيد
ضفاف و احلام
للجدار القديم عشاق قدامى
و انفتاح المرء على الينابيع
و اخضرار الكلمة المشتهاة
أيتها الروح لا تخافي من دهشة الرؤيا
ففي القرى أولاد و موسيقى
و انبهار الفتية بالصراخ الأنيق .

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!