إضاءة إنطباعية حول المجموعة القصصية “ذاكرة الأيام”للقاص والروائي حسن النويهي


بقلم الروائية عنان محروس(الأردن)

ذاكرة الأيام…
من مخزون الاسم وما تدّخره النفس من معاني لهذه العتبة، التي تمضي بنا بعيدًا، ثمّ تعيدنا إلى حاضرنا، لنرمم ما نسينا من أحداث، بإعادة الواقع الموحش المتوحش ، فتصدح الذكرى وتئن الذاكرة
تترك دعوة صادقة لمن رحلوا، تنقش تفاصيل وجودهم في كيان أرواحنا المتعبة
الأشياء تنتهي، لكن الذكريات تدوم إلى الأبد، الذكرى كنز من دموع وابتسامات ، مشاعر دفينة لا يُغرقها بحر النسيان الذي رافق الإنسان فطريًا، فكان له طوق نجاة أحيانًا
رائحة الذكريات تلتصق بوجداننا، تخمة من ظلال ترافقنا، نعلق على جدرانها لافتات حب، غضب، لقاء، فراق، موت ، حياة ، و.. مجازر

لانستطيع اقتلاعهم بالنسيان أو قلب الصفحة، بل سنعثر عليهم في كل كلمة نخطها عاجزين عن إيجاد ملجأ آمن
وكما قال القاص حسن النويهي في أول صفحات الإصدار
هل هناك من هو أحق بالإهداء
(من الأمهات اللواتي رددنّ ، مش عارفين وين نروح نحن وأطفالنا)
طرق القاص في مجموعته القصصية بابين، خططّ ببراعة لتجزئتهما وتوزيعهما وفق محاكاة ديناميكية ، محسوبة زمانيًا ومكانيًا بدقة، ليحصل على القراءة الأمثل لما أراد إيصاله

الباب الأول ، ويشمل ثلاثة فصول ، ابتدأها بمجموعة قصص بعنوان
خبز وشاي وأخواتها

انطلق من المخيم ، وعدد أفراد العائلة الكبير، رائحة لفات الخبز مع الزيت والزعتر، عبق الحب الدافىء بين الأسرة الواحدة، كأس الشاي المختمر جيدًا ، الذي رافق عدد كبير من الحكايا،
ثمّ عاكس جمال المشهد، بالبرد القارص، بصوت المطر القوي، ومائه الذي تسلل إلى متاع العائلة فأغرقه، إمعانًا في تعذيب الفقراء وقلة حيلتهم.
رائحة بابور الكاز المزعج ، المستخدم للتدفئة والطبخ ومآرب أخرى، والجهود المبذولة للحصول على وقود للصوبة العتيقة، ومحاولات غير مجدية في إشعالها، الشحبار المتراكم في الصدور والقلوب المفجوعة

صور فنيّة تجعلك تتلذذ ببساطة العبارة المقرونة مع جمال الصورة

لغة سهلة ، لكنّها ارتقت بأحداثها مع إضافات نفسية وأحيانًا فلسفية، كمثل أن الرواي كان مؤرخًا يستشعر الأحداث وهو ما زال جنينًا في بطن أمه، تلك المسارات جعلت هذا العمل الأدبي مؤطرًا بمضمون تأرجح بين خيال الكاتب والواقع الذي يحملك فجأة على جناح الضعف الشرائي لقيمة نصف دينار، وخيارات محدودة لمن لا يملك مالًا، لكنّ الله معه مرافقًا

رغم اللجوء والشتات وحلم العودة الذي دَكَّ عظام الأجداد الأبطال، رغم المزاودات على الدم وذهول الضياع، ظلّ الحلم منتصبًا بشموخ، يعاند التقويم الزمني منتظرًا، ليصل إلى جبهة صمود يقهر فيها الصمت، ويعيد للأرواح فرحة اللقاء والالتصاق بالأرض
وبلهجة هذا الإصدار والراوي
“مابين أعمى وأطرش، الأول مش شايف، والثاني مش سامع، ماحدا عارف ايش المشكلة”
ضاعت البلاد وحقوق العباد

بعيدًا عن الواقع السياسي ومعاناة الوطن، شمل الإصدار القليل من الجندّرة المخفيّة والتحيّز للرجل، وكأن القاص يطالب بإنشاء جمعية لحقوقه،
تمثلت في بعض الجمل:
“لم يعد للرجل وظيفة غير كب الزبالة، ويجيب خبز وهو راجع
الواحد بيخاف يرفع صوته قدام مرته، أويجرؤ على قول رأيه بالطبخ، أين يذهب راتبه، بطاقة البنك في جيب المدام وغيرها….”

من يقرأ بعمق نوايا الأستاذ حسن، سيكون على دراية تامة أن القاص بأسلوب الدعابة خاصته يسأل قاصدًا،
عن الحق الإنساني، الحرية، الديمقراطية

لم يهمل الكاتب ، توثيق العادات في كلٍّ من فلسطين والعراق، فإحياء تراثنا العربي بعموميته، نجده بين أسطر حكايا الإصدار، فإندثار الأمم لا يكون إلا بطمس عاداتها في المناسبات والملبس والمأكل
هويتنا التي نحارب من أجل استعادة رونقها القديم، ومنع سرقتها

أما الباب الثاني في الكتاب
بدأ بعنوان يوم مولدي، مارًا بالعديد من عتبات التواريخ المهمة، والأحداث الفاصلة، ونتائجها على أرض الواقع ، معرجًا على غصة مقت لشهر الخريف الكئيب، شهر أيلول ،بكل ألوانه المتأرجح بين الصيف والشتاء
و أيضًا موثقًا ذكرياته عن تفاصيل الحرب على العراق

وبالمجمل تتمحور قصص الباب الثاني ، حول التحولات السياسية والاجتماعية والفكرية، راصدة مجموعة من القضايا الوطنية والإنسانية القديمة والمعاصرة
ونحن نعلم أن توثيق الأحداث مهمة الأديب في كل زمان ومكان
بالمناسبة
هو تحدي كبير أن تكتب الواقع بطريقة حيادية ، متملكًا إمكانيات المعرفة المتغيرة ، معرفة تتجول وسط أحاسيس مرهفة ، لترى بعمق فكرة توصلها بأمانة إلى من يقتني الإصدار، وهذا ما نجده في ذاكرة الأيام

غلبت اللغة المحكيّة على أغلبية القصص، حيث سَطّرَ القاص حوارات أبطال شخصياته، بلغة عامية منطوقة، بنفس اللهجة المتداولة بين الناس المجتمعين في منطقة جغرافية واحدة، ربما ليضعنا في مقطوعة السيرة الذاتية الغير مشكوك بواقعيّتها

العرب قديمًا كانوا يطلقون أسماء عن اللغة المحكية، لغة قيس ، لغة تميم، وأحيانًا عبروا عنها بقولهم “اللحن “

واللغة في أصلها ، محاكاة الإنسان البدائية للطبيعية من أصوات، كخرير الماء وحفيف أوراق الشجر
طبعًا اختلاف اللهجات العامية ، تغير من لفظ الحروف الهجائية، متل الصقر والزقر، تداخل الأحرف اللثوية، الذال والزاء، والسين والثاء وغيرها

رغم أنني شخصيًا أفضل الكتابة بلغة عربية فصحى، لاتخالطها العامية ( لغة القرآن الكريم والأدب) إلا أنهّ لابدّ من الاعتراف، في هذه المجموعة القصصية، الجمل والألفاظ العامية ، خدمت سياق السرد وجعلت من كل مشهد ، رسمًا متقنًا لصورة واضحة المعالم.
أخيرًا
نفس الروائي الطويل ، جلي وواضح في المجموعة القصصية، حيث تناغمت الحكايا المتعددة دون تكلف، بتسلسل منطقي جذاب ، تأرجح مع الشخصيات بخفة، وبروية العارف المتمكن ، دون أن يبتر فكر القارىء بمقاطعة، فيخرجه عن المضمون الأساسي 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!