رسَّام الملكة، دستوبيا سحرية لم تُزرِ بها المُباشرية قراءة جمالية عن رواية رسام الملكة ~للقاص والروائي السوداني صديق الحلو

كتب :د / محمد البيدر عثمان

رسَّام الملكة، دستوبيا سحرية لم تُزرِ بها المُباشرية

قراءة جمالية عن رواية رسام الملكة ~للقاص والروائي السوداني صديق الحل

أتت هذه النوفيلا أو الرواية القصيرة – المكونة من زهاء الثلاثمئة وخمس وستين وخمس عشرة ألف كلمة (١٥،٣٦٥)في خمس وثمانين صفحة من المقاس العادي ضمن إصدارات دار ويلوز هاوس بجنوب السودان الحبيب – محاولة تسليط الضوء على الممارسات الفاسدة لنظام الإنقاذ البائد وما صاحب تلك الفترة من تداعيات ألقت بظلالها على المشهد السياسي وانعكست على مرايا الاقتصاد والاجتماع والثقافة والأخلاق. تميز الكاتب والأديب صديق الحلو بكتاباته الحقبية ضمن مايعرف بتاريخ السودان الحديث والتي لا تخلو من سخرية محببة. فنجده في (حروبات كبيرة) متناولاً فترة الدولة المهدية وماصاحبها من أحداث جسام سيما تلك الحروبات العريضة التي خاضتها.كما نجده في رواية (دروب وعرة) متحدثاً عن فترة الرئيس الراحل جعفر نميري.والمتتبع لأعمال الكاتب قصصية كانت أم روائية يجده يعطي فيها المرأة مكانتها باعتبارها محوراً وحجراً للرحى تدور حوله الأحداث.

أفلح الكاتب في اختياره هذا العنوان -رسام الملكة- في جعل روايته أشبه ماتكون بفتاة مغطاة بما لا يشف ولا يصف من دثار.وعلى غرار البدايات الساحرة لماركيز يستهل الكاتب روايته قائلاً: أن تنزلق في مستنقعات زينب بلال اللا واقعية ذلك شيئٌ لا يدانيه سوى الغبار العالق في كل شيئ..ترجع بك الذاكرة إلى الوراء تعرف كثافة الأيام وبصيرة نافذة أقرب إلى الأسطورة.تركب الموجات ولا تتركها. قالوا عن أبيك إنه ولي صالح، وزارة روحاني .. وكأنه يمتلك عصا سحرية يغير بها الأشياء ينعكس ذلك في صفاء عينيه رغم زيجاته العديدة وكثرة عائلته إلا أن ذلك لم يمنعه من عمل الخوارق الغريبة والتنبؤ بأحدث جسام أثبت صدقها مرور الأيام.انتهى الاقتباس. تلفت نظرنا ونحن نمخر عباب هذه الرواية القصيرة تلك الرشاقة في انتقاء الكلمات وسلاسة وانسيابية المفردات.الفضاء المكاني كان مدينة أو جمهورية اللقدين ولهذا الاسم دلالاته وإحالاته فاللقد- كما عرفه العلّأمة الراحل عون الشريف قاسم في سفره الأشهر (قاموس اللهجة العامية في السودان)- هو الأرض المنخفضة التي تتجمع فيها مياه الأمطار.ومن ذلك قولهم : أهل السقدابة واللقدابة. واللقدابة عند الرباطاب تعني المطبخ أو الراكوبة التي يستظل فيها، كما ذكر أن مجلس ديوان ملك الفور كان يسمى باللقدابة إذن فالكلمة معلومة ومستخدمة في معظم بقاع السودان. فاللقدين ماهو إلا رمز للسودان بشماله وجنوبه قبل الانفصال لذا أسماه الكاتب اللقدين وربما في ذلك أيضا إشارة خفية إلى ماعرف بمصر العليا والسفلى أو أنه كان يرمز إلى أن تلك الرقعة من الأرض كانت تحوي الخير من أطرافه.أما الإطار الزماني للرواية فهو وإن لم يصرح به علنا إلا أنه معلوم للقارئ ضمناً، تشي به أحداث ومفاسد وقع كثير منها في عهد نظام الإنقاذ البائد.فالعمل بمجمله يتحدث عن السودان في عهد النظام البائد جاعلا الحبكة الإجتماعية مغزلاً تتشابك خيوطه لتصنع جبة من الدستوبيا السحرية النادرة.الحق أننا بسهولة قد نعثر على الدستوبيا الساحرة أو الرمزية أو الواقعية لكن أن نجدها بمثل هذه السحرية الغرائبية الوصفية فذلك في ظني مرتقى جديد وتلة شارفة باذخة؛ انظر إن شئت قوله ص ١١[أمام حيرتك الراعشة انقلبت كل الأمور وتأرجحت لقد دجّن الحكام الجن حتى ينتصروا على خصومهم وهاهو الصلف والضرائب والجشع طوحت بالفردوس المنشود، وأضحت الحقيقة أن المشروع قد تبخر في ظل التدخلات الأجنبية.وإن كان طواه النسيان إلا أنهم يلوحون به عند الملمات.لم تنسهم الأنشطة المتعددة بأن الطريق إلى النهاية بات قريبا.وهاهم الأتباع يعانون من ارتفاع الأسعار والاستقبال الحاشدة تعيد عهد طه الأبيض الذي وعد بغرس الخناجر في الصدو.الكبار الذين يعرفون الحرمان اشتموا روائح مؤامرات تتم، والموسيقى الصاخبة تغطي على صوت البطون الجائعة وتراتيل القرآن وقعقعة السيوف].تبرز في النص شخصية زينب بلال، الشخصية المحورية السلطوية ببناتها اللواتي يزدن عن العشر وكأنهن بنات الدهر في دنيا السياسة .ربما كانت زينب بلال وبناتها رمز للسياسة السودانية وفشلها المتوارث جيلا بعد جيل؛ إقتباس ص٢٠[زينب بلال تتمحور..تتمحرق، تنداح تتجسد في الحفيدة زوزو تتقمصها ويكون الإحلال].ثنائية الجنس والسلطة نجدها حاضرة وبقوة في معظم منحنيات الرواية هذا بالإضافة لسميائية الإغواء ودلالاتها المرتبطة عموما بالسياسة سيّما مفهوم اللعبة القذرة. الراوي تنوع مابين الراوي العليم وضمير المخاطب في براعة ورشاقة وانسيابية.تبرز شخصية مسرور الرجل الصالح في المنبت السوء -والذي عبثاً حاول الفكاك من بؤرة أمه زينب بلال وأخواته- ليسقط في براثن زوجته ذات المنقار. مسعودٌ الباهت(باهت) حالة كونه وهو الأصغر بين إخوته، نجده لا يلقي بالاً سوى لإرضاء نداءات الجنس في بواكير الصبا وهو الأمر الذي ظل ملازماً له ردحاً من الزمان.

عبدالباقي جبل الحديد، رئيس البلد الدكتاتور، المنشغل عن أزمات مواطنيه والساكت عن فساد بطانته يسلط الكاتب الضوء عليه وعلى تلك العلاقة المعقدة التي جمعته وزينب بلال. ثم يبرز رئيس اللقدين الجديد (عبدالله القرين) كأنما هو القرين لعبدالباقي جبل الحديد في كل شيئ سوى أنه كان ماكراً يعرف من أين تؤكل الكتف.كل ذلك بعد أحداث عاصفة نجم عنها انفصال الجزء الجنوبي للبلاد وبوادر للتمرد في باقي الأجزاء. لتسدل الرواية أستارها على رؤية ولوح مسطور في حضور مسعود الباهت وابنه وعبدالله القرين ومحمود البو في نهاية شبه مفتوحة واحتمالات للتأويل.

إشراقات:

١/ حفلت الرواية بلغة شاعرية وعبارات عميقة ومكثفة، ووصف أخاذ لم نعهده في الروايات التي تعالج قضايا الفساد في مايعرف بالدستوبيا.

٢/ استطالت الرواية في أبعاد زمانية سحيقة محاولة استقصاء مشاكل السودان سيما السياسية والاقتصادية والأخلاقية ومحاولة إيجاد تبريرات منطقية للإنقطاع الحضاري الذي جعل من أصحاب أقدم الحضارات البشرية يعجزون عن لملمة أطراف بلادهم والعيش فيها بسلام.

٣/ أكّد الكاتب على مكانة المرأة في المجتمع السوداني وتأثيراتها السلبية والإجابة منعتقاً في ذلك من خيلاء البطولة الانثوية المطلقة ومن ربقة رضوخها المشين.

٤/ تميز الكاتب بالسلاسة والإنسيابية في الإمساك بخيط السرد حتى الختام.

٥/ قام الكاتب برفدنا بالكثير من كلماتنا العامية السودانية في مايمثل قنطرة تراثية تحتاجها الأجيال المتأخرة والقادمة من السودانيين كما يحتاجها القارئ غير السوداني ليتعرف على إرثنا ومخزوننا التراثي والمعرفي الكبير، إلا أنني وددت لو حوت الرواية بعض الهوامش لتوضيح بعض المعاني التي قد تشكل على البعض.

إستدراكات:

١/ حاول الكاتب أن يجعل من الرواية (منفستو) لفضائح النظام البائد الأمر الذي أضر بالنية السردية للرواية خصوصا وأنها رواية قصيرة في الأساس.

٢/ أمعن الكاتب في اللجوء لأسلوب الجمل القصيرة والتكثيف وذلك على حساب الديالوجية الثنائية.

٣/ بشكل أو بآخر طغى نوع من المباشرة وذلك بسبب إدراج وقائع حدثت بحذافيرها كما أن بعض شخوص الرواية يمكن تسميتهم بأسمائهم الحقيقية إبان النظام البائد.

٤/ رغم أن العنوان كان مبهراً إلا أن الإحالة في السيما الأساسية للرواية- وهي قصة الكنداكة الكوشية أماني ريناس والإسكندرالمقدوني ورسام الملكة وهو الجندي المجهول- لم توظف في رأيي التوظيف الأمثل لذا يمكنك بسهولة اجتزاء الوريقات التي تحدثت عن تلكم القصة دون أن تؤثر على أحداث الرواية نفسها، فهي إذن لم تصبح مخالطة لعظم الرواية أو لحمها بيد أنها الروح والمقصد.

٥/ يلاحظ القارئ ذلك الكم من أسماء الكتب والعلماء والمقولات ، الشيئ الذي قد يوحي ببعض الإستعراضية.

٦/ هناك الكثير من العبارات التي يستعصي فك رموزها والإشارات التي يصعب التقاطها. إقتباس[الحياة في اللقدين أضحت صعبة والطقسيسير للأسوأ كأن العالم كله سطح مرايا].

٧/ قام الكاتب بمايشبه جرد الحساب لشخصيات دورها ثانوي في الرواية فبدت الصفحات الأخيرة مكتظة بتفاصيل تلك الشخصيات الغير ممهد لها بصورة جيدة.

عموماً يمكننا اعتبار هذا العمل بمثابة علامة فارقة في مسيرة الرواية السودانية لاعتماده أسلوب الغرائبية السحرية مدغمة في دستوبيا واقعية، وهو وإن لم يخل من المباشرية في الطرح أحيانا والتكثيف في الأسلوب في أحايين كثيرة إلا أنه يصلح أن يكون لبنة جيدة في هرم السرد السوداني المجيد.فالشكر كل الشكر للأستاذ الروائي الأديب/ صديق الحلو على هذه القطعة الفنية المتفردة.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!