شاعر الحكمة الأزلية يلاحق الشمس من الجبال إلى الجبال سلمان زين الدين في ضمائر منفصلة: خارجاً من ضيِّق المجرى/إلى بحر الكلام

عمر شبلي
منحني الدخول في حضور شعر سلمان زين الدين مناعة الرائي المستبدّ بما يرى لا بما يعرف. وكنت وضعت أذن روحي على أذن قلب صاحب ضمائر منفصلة، لأسمع ماذا ستقول لي دقّات هذا القلب الآتي كالحلم والمقيم كالأمنية. والحلم والأمنية منذ وُجدا كانا تعبيرين عن حزن واقتحام، وحين يصبح الشعر اقتحاماً يصبح ثائراً. لم أخف من أحزان شاعرنا سلمان، لأنّها تدفع إلى استمرار الحلم والصعود إلى تسلّق جبل الأمنية. واكتشفت أن صاحب هذه الضمائر المنفصلة سكران بخمرة تتشهّاها العناقيد المتدلّية من دوالي وادي التيم، إنّ خمرته مسكوبة، كما قال جبران خليل جبران، في كؤوس من أثير، لأن الحلم والأمنية لم يبرحا وجدانه على امتداد صفحات ديوانه..

في هذا الديوان تراتيل معبد هندوسي مغرق في اقترابه من النرفانا المستبدّة بترابيّتنا والمحتجّة على ضمائرها المنفصلة، فهل تجدّد العاصفة شباب الزهور، كما يقول بودلير، بإلغاء التراب الذي يأسر عبيرها في كونية متلاحقة الحضور وإفنائه بما لا يتكرّر مرّتين، وبما لا يجعلنا مستغرقين في بشريّتنا في سعينا المحموم للضمائر المتّصلة.
في رحلة العودة إلى الضمائر المتّصلة التي هي غاية هذا الكتاب الدرزي الهندوسي المولوي المتدفّق كالفتوحات المكية للشيخ الأكبر القائل: سبحان من أظهر الأشياء، وهو عينها يصبح الزمن وهماً كما يقول مولانا جلال الدين الرومي. وتصبح الضمائر المنفصلة ضمائر متصلة: فإذا ما جسدٌ مني تداعى/.. ترحل الروح إلى جسم جديد/ ترتديه مثل غمدٍ/وتلبّي دعوة الحقِّ/ إلى عرس الإياب، وواضح في هذا السير الحثيث أنّ الموت يخلع الأسود ويخلع الخوف والسواد ليصبح حقاً وعرساً كما تقول الضمائر المنفصلة. وإذا كان من حزن في هذه الضمائر المنفصلة فباعثه انفصالها وترابيّته المستبدّة قبل مغادرتها غمد الطين المتحكّم بآنيّتها المتحوِّلة، إنّها جادّة في سيرها للتخلّص من أنا الواهمة الحضور، والتي ينطوي فيها العالم الأكبر.
وقتها يكون الجسد كالقِدْر الذي نُطهى به للتخلّص من حَمَئهِ المسنون. نزيفنا مستمرٌّ مادام الحمأ المسنون سجناً لنا، ومادمنا الضمائر المنفصلة أنا، وأنت وهو.
الحكمة الأزلية
حوائج هذا الكتاب الجميل لا توجد إلاّ في المستقبل لأنّه قائم على الحلم، وأهمّيّة هذا العمل الشعري تكمن في إيمان صاحبه بحتميّة مجيء الكأس الضائعة، وعلى زجاجتها تلتمع الحكمة الأزلية، إنّها كأس جمشيد، جام جم. وهذه الحتمية المتحكّمة بالضمائر المتّصلة هي غاية تقصي هذا الواجد الرائي المقيم في معبده الهندوسي راسماً وجه الله الآتي الذي رآه أولي العزم من سدنة الروح في رحلتها الشاقّة، والتي هي من أمر ربي.
يقول أدونيس: في الحنين إلى المهد حنينٌ مضمرٌ إلى اللحد، وكلّما ترشفْنا زمناً ترشّفَنا زمنٌ آخر، كما يرى سلمان زين الدين، وفي حالتيه يظلّ ظمآنَ وهو يحاول قطف الأماني. والمحاولة هنا صعبة لأنّ تكرار الخلق مضنٍ، ولأنّ الأمنية تظل أمنية، فإذا قطفتها انتحت لتصبح أمنية أبعد، ونموت على الطريق، وهي تلمع ماءً وسراباً في آن. ولكنّه الموت الجميل الذي يعد بالوصول في الموت، فهل يعدنا الآتي بالفرح في الموت!.
وهناك ذاتٌ درزيّةٌ مستبدّة بروح وقلم صديقنا سلمان زين الدين، ولكنّ استبدادها باتجاه الأعلى، ربّما سبب ولعها بالأعلى عائد لتقمّصية ترفض التناسخ ولشمم درزي موروث من شمم الجبال وسكناها، فكيف إذا كان السَكَن جبل الشيخ الذي تزوّج العواصف والقلق، وهو منذ انفصاله عمّا استقرّ من الأرض وعمّا اقتنع بالسفوح ظلّ يحلم أن يكون من ناطحات السماء، وليس من ناطحات الغيوم، ولعلّك تعجب من استلقاء الغيوم على سفح هذا الجبل المسافر إلى الله في عباءة درزية بيضاء. جبل الشيخ في شعر صديقي سلمان زين الدين هو جبل درزيٌّ بامتياز. جبل لا ينطفئ، ولا يخلع عباءة الخلود عن كتفيه، يمدّ يده للسماء حتّى ولو كانت أذياله للسائمات ملاعب. على إيقاع شاعرنا عمر أبي ريشة. في شعر سلمان يغدو جبل الشيخ حميماً ومغرياً بالأعلى وغير عابئ بصروف الدهر، إنّه إنسان درزي متمرّد على الأرض، ومتّجه صوب السماء، يقول سلمان: وشيخٌ يستوي جبلاً يصلّي/ويزخر بالمباني والمعاني.
ضمير المتكلّم
عنصر الأنا مهيمن على الضمائر المنفصلة كلّها، حتّى لكأنّها مجتمعة في ضمير المتكلّم، وهي لا تقترب كثيراً، من فردية وجماعيّة أدونيس: مفرد بصيغة الجمع، إنّها المناحي الكثيرة التي تجمع الأضداد وترصد تنافرها في العملية الإبداعية، لكلٍّ عالمه، وقاموسه الجوّاني التأويلي الواجد والمختلف.
فخر شاعرنا سلمان منوطٌ بالمعرفة النابعة من حكمة الدرزي الجميلة، إنّها الحكمة التي وسعت كلّ ما في الكون من أسرار، والتي ترى العالم الأكبر منطوياً في الجرم الصغير، وهذه الصوفية الدرزيّة مؤمنة بوحدة الكون في انسجام متنافر، هذا ما عناه الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي حين قال:عقد البريةٌ في الإله عقائداً/وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوهُ.
وهذه الحكمة الدرزية الحميمة والتي تؤمن بالتوحد في الذات الكبرى، كان يسير باتجاهها الشهيد الحي كمال جنبلاط، وقد سمعته مرّة يردّد للشيخ محي الدين بن عربي، وهو يرأس اجتماعاً للحركة الوطنية اللبنانية، ويومها قلتُ في ذاتي: إنّ هذا الإنسان لا يستطيع أن يكره أحداً، وتعجّبت أكثر وهو يردّدها في اجتماع سياسيٍّ محموم: لقد صارَ قلبي قابلاً كلَ صُورةٍ/ فمرعىً لغزلانٍ ودَيرٌ لرُهبَانِ/ وبيتٌ لأوثانٍ وكعبةُ طائفٍ/وألواحُ توراةٍ ومصحفُ قرآن/أدينُ بدينِ الحبِ أنّى توجّهتْ/ركائبهُ ، فالحبُّ ديني وإيمَاني.
لقد ورث سلمان زين الدين حكمته هذه من تكوينه التوحيدي، ومن انتمائه لما يسكن في الناس جميعاً، كان سلمان زين الدين كلّ هذا وهو يقول لنا: فما ظفرتُ بكنزٍ رحتُ أطلبهُ/وما احتفظتُ بما في اليدِّ من ذهبِ/أقمتُ فوق تلال الكتْبِ مملكتي/في عالمٍ من عُجابٍ قُدَّ أو عجبِ/وطفتُ حول قناديلٍ معلَّقةٍ/على جدار من الإبداع والأدبِ/ولم تبارحْ مدار النور أجنحتي/حتى استحالت فراشاتٍ من اللهبِ.
الطبيعة في شعره
كان سلمان زين الدين في قريته يلاحق الشمس من الجبال إلى الجبال، ولم ينزعج من جبل الشيخ، وهو يؤخّر الشمس وقتاً أطول ليخلص من طهو ثلوجه، لتصبح مواسم لقراه التي ترضع أثداءه. الطبيعة موجودة بغزارة في ضمائر منفصلة، وهي تلاحق شاعرنا إلى كلّ أرض حلّ فيها. لقد ظلّت الطبيعة في شعره شوقه المبتعد عنه بحكم الحياة. لقد عاش في المدينة، ولكنّه كان يحمل قريته، لقد كانت معه كمن يحمل سجنه في داخله، ولكنّها سجن من نوع آخر، سجنٌ شهيٌّ كالحرية نفسها.
المرأة في شعر سلمان زين الدين تتحوّل قضية إنسانية عالية، حين تتّسخ الحياة، وحدها عليها أن تمارس فعل نظافة هذا الكون المظلم من صلب الرجل حتّى الاغتيال السياسي باغتيال نقطة الضوء الجديرة بالبقاء، ألا وهي العدالة، فلا عدالة بوجود شهريار، لا بدّ من شهرزاد، والتي تعني بالعربية بنت البلد، لا بدّ منها لإزالة الظلام المستبدّ بوجدان شهريار حامي المدينة، كما يدّعي ظاهر الكلمة. ولكي يكون الموت عادلاً يجب على الحياة أن تكون عادلة. في هذا المقطع الجميل من هذه القصيدة البديعة تغدو المرأة خالقة، إنّ التي تقتل الليل المستبد بصدر شهريار، هي نفسها التي خلقت فيه الصباح.
لقد تعرضتْ شهرزاد للموت بقبولها ليل شهريار، وكانت تُضمِر فعل التغيير بانحيازها للحياة بما اختزنته من ألوهة الفعل الإنساني، كان من المحتّم أن تلحق بسابقاتها، ولكنّها قرّرت صنع الحياة، ومن هنا كانت أهمّيّة أن تعطي الحياة معناها القائم على العدل، ومعنى انتفائها القائم على الظلم. لا بدّ من العدالة لتكتمل إنسانية الإنسان. صحيح الموت مرعب، ومخيف، ولكنّ الذين يحملون الضوء في أعماقهم يقلّ خوفهم من مواجهة الموت، كما فعلت شهرزاد في رؤيا سلمان زين الدين، وأغرتها قناديل الحقيقة بتقديم أجنحتها، لتحترق، ولكن لماذا تحترق؟ لا تفعل هذا إلا حباً بالحياة، الحياة التي تحمل في أحشائها كل خصائص الحياة: وتمرّدت كالنهر ضاق بضفتيه.
حين تضيق الحياة يتّسع الموت. وهذا معنى أن نكون، ومعنى ألا نكون أيضاً. وواضح في هذه القصيدة أن الشاعر سلمان زين الدين يجعل شهرزاد تشهر سلاح الكلمة لقتل الظلم والظلام، وكانت الحرب تمتدّ بين المباح وطلوع الصباح، في سيمائية عالية تتقنها هذه القصيدة، متّكئة على الجملة الشهيرة في ألف ليلة وليلة، وأدرك شهرزادَ الصباح فسكتت عن الكلام المباح. المباح في صدر شهرزاد كان غير المباح في صدر شهريار، كانت الكلمة تحفر مجراها في صدر شهريار، كلّ هذا ليقول لنا شاعرنا سلمان، أنّ الكلمة الواعية والملتزمة هي السلاح الحقيقي للنصر في معارك الكون الكبرى، فنهر شهرزاد النابع من الوعي المقهور كان دائماً، وكان غزير التدفق: خارجاً من ضيِّق المجرى/إلى بحر الكلام.
وحدة الوجود
إنّ وحدة الوجود التي هي غاية التقصّي لكلّ ما يحدث في الدنيا، هي نفسها التي جعلت المبصرين منّا يرون أكثر مما يعرفون، وقمّة المعرفة أن ترى، وهذا ما رأيته في شعر سلمان زين الدين، ولم أستطع أن أكتم فرحي بشاعر يتاخم جغرافيّتي البقاعية والإنسانية التي تجمعنا قبالة شيخ الوقت حرمون الذي ينتظر منا الكثير ليسمح لنا بتسلّق شموخه الذي لا يدانى.
صديقي الشاعر الدرزي الإنسان، يروق لي أن أقول بدرزيّتك لأنّها تغريني بالعودة إلى هذه الأرض الطيّبة التي تشبهنا. صحيح أن البدن سجن النفس كما يقول أفلاطون، ولكنّه سجن محبّب بمقدار ما نتّهمه بالإثم، إنّنا نشتمه، ونعبده، ونسعى وراء رغابه، وننحر أعمارنا من أجله، ثم نقول: إنّه آثم. أوليس هو وعاء حواسّنا كلّها، ومقرّ عقولنا، أمّا الروح يا صديقي فهي البعد الذي لم يستطع حتّى الدين الاقتراب من جغرافيّته التي تحدّد مدار الروح: ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي، وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلا. إنّنا لم نستطع تخطّي فكرة الطرد من الجنّة، مع أنّها فكرة رائعة لتحوّل إنسانيّتنا من المخلوق إلى الخالق: خلق الأشياء وهو عينها. يجب الخلاص من التورية التي جعلتنا نتشظّى بين داخلنا وخارجنا. والخواتم الجميلة لا تكون جميلة إلاّ إذا وجدت إصبعاً كإصبع سليمان لتدخل فيه. حاولْ يا صديقي في عمرك الترابي المؤقّت أن تُدخِل الياء من سليمان إلى سلمان. لأنّ شعراً جميلاً يستحقّ ملكاً جميلاً.
إنّنا بحاجة لكثير من فيض الروح في عالمنا الموبوء هذا. فالعمر يمرّ بسرعة، ونحن لا نستطيع أن ندخل في ماء النهر مرّتين. واللحظة التي أخاطبك فيها صارت قصية. فلنجعل الزمن خادمًا لحرّيّة الإنسان والمعتقد، ولنجعل الحلم زادنا في الطريق. إنّنا بحاجة لمزيد من ضخّ النور إلى دمائنا لنرى أكثر، فالدم أحياناً يتحوّل إلى ذئب كاسر في الظلام. يقول السنائي: إنّ الفراشة الضعيفة تجعل روحها فداء للشمعة ليحظى نظرها بومضة من سناها. في الضوء نستطيع أن نحصي ينابيعنا واحداً واحداً. وفي الظلام نموت ظمأ على مرمى الينابيع.
حضور القلب ضرورة لتقبل الصلاة، وأنا رأيت قلبك ينبض في كلامك.

عن الملحق الثقافي  لصحيفة الأنوار اللبنانية

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!