قافلة الدموع لدى شاعرنا  مصانة في حب وكبرياء

آفاق حرة

دراسة نقدية لقصيدة (خارطة الأحباب ) للشاعر مصطفى جمال الدين

الناقد عبدالباري المالكي

تلك الليلة … كان مقدراً لها ان تكون فاصلة في حياة شاعرنا، فقد اعلن صبيحتها انه مبارح السكينة والهدوء بسراج يتخذ من ضوئه الشاحب ملاذاً له ، ومن أساهُ طواعيةً ليراعه ، دون ان يكتم قراره هذا حتى عن اقرب مقربيه ، ذاك لان الموت لم يمهل قلب شاعرنا حتى اشعله لظى بفقدهِ احبتَه فكانت تلك جنايةً لم يكن ليشهدها احدٌ اعظم من شاهدَيهِ (انت والألمُ ) .

وحين يفعل الموت فَعلتَه ، فإنه يبتزّ الإيمان ، ويشجي اللواعج ، وتكون الدنيا حينها اضيقَ من ان تتسع للقلوب الصابرة والنفوس الجلدة ، حتى انه لا عتبَ آنذاك على تلك اللواعج المستفيقة وذلك لما استبدت بها سهامُ النائبات ، بطريقة لم يجد فيها شاعرنا سبيلا للخلاص من أساها الا الصبر .

والصبر… في عُرْف شاعرنا انما هو رحلة الألم التي ابتدأت بخطوة ، ولن تنتهي بالألف ميل …وهي تمثل دفق العواطف وصدق المشاعر التي يضج بها شاعرنا حتى أصبح طرفاً يشترك فيه بصراعٍ مع الألم الممتد قافلةً من الدموع ، وحتى تبين له ان المصير هو عنصر اساسي لملامحَ صنعتْها فتكةُ الموت الذي لا تنفكّ آجالُه المقدّرة حتى تدور حول محورية ذاته فتنقله الى واقع تلتهمه مشاكل الليالي الموثوقة ، وتشتفي منه بزفرة لا رجاءَ فيها الا تُهَمٌ فوقها تُهَمُ .

وحين يعجز اللسان ويتكلم البَنان ،فان ذلك يعني أن صميم شاعرنا الصادق هو ما أباح له هذه الإنطلاقة الى شوط يعرف كيف يقطعه دون ان يلهث ، وان هذه الانطلاقة انما هو تعبير حيّ قد سرىٰ في دمه رغم ما عاناهُ من رحلة الألم التي تهاوت دونها قممُ ، فتشكل من ذلك نسيجاً كاملاً من الأسى يضطرم بها قلبُه جراء تلك الجنايات التي راودت شاعرَنا ، فرآها بلون الدجى ، وطعم العلقم .

وقافلة الدموع لدى وجدان شاعرنا ليست دموعاً مستمرة تستوي فيها الرجولة من عدمها ، بل هي مصانة في حب وكبرياء يجعلانها امارة من امارات الرجولة الباكية التي تحرك العواصف ولاتتحرك ، وتزلزل الارض ولاتتزلزل ، لانها وعاء للصدق النفسي الذي جعل شاعرنا يصوغ قصيدته صياغة فنية موشاة بالإباء من جهة …. وبالرقة من جهة أخرى .

ولعل شاعرنا لم يكن مسرفاً في تخيلاته حين ساوره الشك حول مفاجآت قدره التي تهوي بصبره …وينهزمُ ….، فقد كان مؤمناً بان خارطة احبابه قد نُضِبَت وخَرجَت عن الجادة المرجوّة فاصبح الحزن هو الساري ، وصار اللواذ بأسوار جنة الفردوس المانحةِ عطراً هي العزاءَ الوحيد لشاعرنا ،مستعيناً بالمتعة في احلامها عوضاً عن تلك الصور الأليمة الآسرة لقلبه والتي لاتكاد تطيب له الحياة الا بالإعتصام للماضي بحس فطري لقلب يتألف من لحم ودم .

ويبتعد شاعرنا كثيراً عن لغة الإيحاء والرمز ، لانه يرى ان تلك اللغة عاجزة تماماً عن احتواء تلك المصائب ، ولم يعد جسده قادراً على استيعاب هذه التجربة المريرة التي ألوى بحياتها العدمُ ، حتى وجد ان استدعاء الماضي والخلود في الفردوس هو مايجعله مقتنعاً بالرضا عن تلكم الآجال القاسية ، وإنْ كان شعوره قبساً من الإلتياع الذي لاتنطفئ جذوتُه .

وخلاصة الأمر … ان شاعرنا لم يكن ليسأمَ من قضاء السماء وتدبيراتها رغم حزنه العميق ، وذلك لما تمنحه الفردوس من عطرٍ للذين أقلّوه وما سئموا .

َقصيدة

خارطة الاحباب

 

ما يفعلُ الموتُ في قلبي فَــيَضْطرِمُ

جِـنَـايـةٌ شــاهــــداها أنــتَ والألــــمُ

يـبـْـتــزّ ايـمانَهُ .. يُـشجي لواعِــجَـهُ

لـتــــستـفـــيـقَ ويــجـري بـيـنـهنّ دم

وتــستــقــرُّ ســهــامُ الــنـائـبـاتِ بهِ

وتـحــتــفي بـأســاهُ وهــي تــبْـــتسـم

فــرِحْــلةُ الألــمِ الــمــمـتدّ قــافــلـةٌ

مــن الـــدمــوعِ تـهـاوتْ دونـها قِمَـم

وفَـتَــكَةُ الـموتِ مـازالـتْ تُـفاجِـئـهُ

كـأنّــهـــا تـشـتــــفي منـهُ وتـلــتـهـم

وفــي لــيــالـيـهِ مـوثـوقـاً تحاكِـمـهُ

كـأنّـهُ تُــهــمٌ مــــن فــوقِـــها تُــهـــم

رفــقـــاً بــــهِ يـا لآجــالٍ مــقـــدّرةٍ

فـسوف يـــهـوي بـهِ صبرٌ ويـنهـزم

رفـقاً فــخارطةُ الأحـبابِ قد نضُبت

بـها الحـياةُ وقــد ألـــوى بهـا الـعـدم

رفقاً وإنْ كانــت (الفردوسُ) تمنحُهُ

عِــطــرَ الـذيـــن أقــلّـوهُ وما سـئـموا

عطـــرَ الذين أراحوا دربَهـم ومــضوا

الى الخلــود وماضيــهم لـه حُــلُم

 

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!