قراءة في ديوان “للقهوة وقت نركنه في الزّاوية”/ بقلم عماد نبيه خليل

للوهلة الأولى، نظنّ أنّنا أمام كلمات تحتفي بالحب، وبالغياب الّذي يمتدّ حضورًا في لغة الزّمن، لكن سرعان ما نكتشف، ونحن نقلّب في صفحات الكاتب الشّاعر أحمد بزّون، للقهوة وقت نركنه في الزّاوية، عن مؤسّسة الإنتشار العربي، أنّنا أمام حالات من الغليان الدّاخلي، تنطق بها نوازع النّفس الإنسانيّة، وتؤرّقها جملة دلالات في الفلسفة، والفكر، والإنتماء، في لبوس من العري الّذي يحبس الأنفاس في تحلّل فاضح من كلّ الضّوابط، والإنصراف إلى اللّذة ضمن أيقونات من العبث، والهذيان المنتشر في كلّ الزّوايا.  يبدو أنّ العنوان مفتاح الحيرة، مشروع قلق مقبل، يخبّىء بين ثناياه سلّة من التّضاد، ومن أسرار الزّاوية، في سياق مغامرة تتعدّد فيها الأمكنة الحسّية، والرّؤى المتخيّلة، فتتحوّل  القهوة إلى همسات أنثويّة، تلبّي نداء الشّغف لعاشق مستبدّ، كما تتحوّل إلى براكين من الضّياع، تبدو جليّة في مشوار القصائد، والأبعاد: اسكبي لي كأسًا عاشرة/لأسقط خفيفًا من الشّرفة الخامسة/وأطلقي حروفك الجافّة، تحبل بطني بشجرة صبّارص71.  يلي العنوان وجع احتفاليّة الغياب، الغياب الّذي يعانق الخلود، يأبى أن يشيخ، أو يترهّل، لاسيّما الغياب الّذي يحفر عميقًا في الأرض، يبقى وهّاجًا في الوجدان، ممّا حدا بالشّاعر أن يحسد شقيقه الغائب حسن، فاستحضر ذاكرة مؤلمةً، لكنّها حاضرة في يوميّات الشّعر، وإن لم يجرؤ الشّاعر على تعليق صورته على الجدار، يقول بزون:لم أعلّق صورتك على جدار/ حتّى لا تنزف دمًا جديدًا ص6. نعم، يتحسّر الشّاعر على طول الأمد، ينال الموت بالحسد، إذ، يقول:مع ذلك، أفرح لأنّك مازلت شابًّا في الصّورة/وقد نأى بي الشّيب عنك/وصارت المسافة قلقًا ينمو في العتمة ص6.  متاريس من الدّمع  هكذا، كانت البداية، لنتوهّم أنّنا ذاهبون إلى متاريس من الدّمع، وإلى مسارات من النّضال، لنكتشف فيما بعد، أنّ الشّاعر قرّر أن يعبر من قلق إلى قلق، ومن غضب إلى غضب، ومن لذّة إلى لذّة، بصور من دلالات ورموز تهتك أسرار الجسد، ومتعة الحبّ، لكن بعقل يعي، وفكر ممتلىء بالوعي: لا أعرف لماذا رميت مخيّلتي على الكون/محيط من رخام ترقص فيه صخور عملاقة/خفت أن أقع من رأس جبل في أعلى مجرّة/أن أصبح نيزكًا قاتلاًص16  إنّ قصائد للقهوة وقت نركنه في الزّاوية مرآة يصبّ فيها الشّاعر جام غضبه على السّلطة الدّينيّة، إذ، نراه يعبّر باستياء وازدراء عن الفهم المغلوط لفكرة الإله، حيث يبدو هنا الشّاعر، ذلك المتأمّل الّذي يظهر القلق الوجودي، والنّفسي، كما يبدو غضبه على كلّ إيديولوجيا تتحوّل إلى صنم، فالعتب يتركّز على أبيه، في حين نجد أمّه تخاطب إلهًا يبتسم لها، لأنّ الأمّ تجسّد فلسفة الصّفاء، والإخلاص، بينما الدّعاة هم الكذبة: علّمتنا أنّ اللّه واحد واحد…/فلماذا يتربّع في رأس كلّ قاتل إله/ يصلّي له، ويسنّ بذكره السّكينص15… يتابع: يا أبي… علّمتنا ألاً نكفر…نعم/لكن … وحده الإله الّذي تصلّي له أمي يبتسم لي.  لم يكتف بالإستياء، بل ذهب إلى مطارح شغلت الفلسفة، في لغة الآلهة، والتّفسيرات، ليبدو أحمد بزّون من الشّعراء الّذين يوظّفون الفكر في النّصّ الشّعري، والفلسفة، وفي هذا ما يجعل الصّورة الشّعريّة على تماس مع الوعي اللّاوعي في الصّورة الشّعريّة، يقول أحمد بزّون: يا أبي… من يتقاتل هنا: الآلهة أم البشر؟ ولماذا؟/مادام التّاريخ لم يهزم إلهًا ص15.  السّؤال لماذا؟ مسار فلسفي، رغم ماتثيره علاقة الفلسة بالشّعر من إشكاليّات في المدارس القديمة، لكن مع الشّاعر في مجموعته الشّعريّة، جاءت محبّبة، ومضة، واختزالاً موفّقًا لكلّ الفجور في الرّاهن. لكن، كلّ ماذكرنا وظّفه الشّاعر أحمد بزّون بلغة المرأة، بالحبّ، فهل أراد أن ينتقم من الهروب باستعلاء ذكوري؟ هل الإخفاقات في تحقيق الحلم، والمبادىء الّتي تعلّمها، ذهبت أدراج الرّياح؟يبدو، أنّ الشّاعر بزّون قرّر أن يذهب إلى انتصارات وهميّة بلغة الحسّ، والعشق، في أماكن حميميّة، لم يتورّع الشّاعر عن تفاصيلها: كنت زبدًا على قرص شمس/أحرق غابة لأغلي فوقها دمي ص21. السّرير يطفو على زئبق والرّيح لم تصح بعد/لا تمازحي رغبتي… تفيق من سابع نومها/لاتشعلي عودك..أحرق الغابة كلّهاص27…  هكذا، نجد ماورد من مقاطع أنّ الشّاعر في حوار مستمر بين الذّات والآخر، بين الأنا والحبيبة، والأنا مع الشّاعر في كلّ الدّيوان الشّعري جاءت مفخّمة ، آمرة، فيها نرجسيّة، واستعلاء، نراه يقول في صيغة الأمر: ارفعي تلك الخصلة عن عينك اليمنى/تتفتّح وردة في لوحة معلّقة على الجدارص69.  الشاعر الدّنجوان  المرأة في للقهوة وقت نركنه في الزّاوية جاءت ممتلئةً بالرّمز، شكّلت فضاء من التّحوّلات في انحناءات الجسد، والشّهوة، رغم الكلمات الصّادمة: أشعر مرّة بأنّ تفّاح وجهك نهد. جدير بالإنتباه، للخيانة الّتي قدّمتها الحبيبة لأجمل الشّبّان، رافضًا أن ينسب هذا الحب له، ليؤكّد أنّه الدّنجوان، الّذي يسحر الحبيبة فلا تخونه، حيث استعمل بذكاء الماكر لغة المخاطب للسّؤال عن الغائب، وطرح الأسئلة للقارىء: من منكم رأى حبيبته تقبّل أجمل شبّان المقهى/ كي تهدأ،/تطحن بأسنانها أزرار قميصها لتمرّر عيون المارّة ص73. بحقّ إنّ الشّاعر أحمد بزّون حرّك المخيّلة لمشهديّات أثارت حماسة انتباهنا كقرّاء، أكثر من استخدام الأفعال للدّلالة على الحركة، وعلى شيطنته الّتي تؤكّد حضوره رغم كل الأوقات، ومرور الأيّام، فبدا كرسّام، يرسم بالقلم صورًا يرصدها التّخيّل، وما من خلاصة إلًا وكانت المرأة هي السّؤال، ولم تك القهوة سوى خديعة للإغواء، في زاوية، تكاد تكون هي زاوية الحياة، فقد نركن فيها مانحب، وقد نركن فيها ما نهمل، ولكن يبقى سيفًا مسلّطًا على الحياة، وعلى غرار نزار قبّاني، استمرّ في شعره عن المرأة، إلًا أنّه اعترف، فبعد خمسين عامّا من الكتابة عن الحب، أنّه لم يكتشفها بعد، لكنّ الشّاعر أحمد بزّون يختم بخلاصة مرّة، إذ يقول: أخذت دروسًا كثيرة في الحبّ./لكنّني كلّ مرّة أتهجّى النّساء/ كأنّني بلا ذاكرة ص122.  في النّهاية، يجب أن لاننسى أنّ الشّاعر أحمد بزّون ، كاتب متعدّد، في الصّحافة، والفكر، يملك رؤية فكريّة بدت بشكل أو بآخر في شعره، جريء، عبّر عمّا يجول في تأمّلاته بلغة أنيسة، مفهومة، لاتعقيد ولا حوشيّة، بل ، سلسة رقيقة

عن موقع الأنوار

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!