قراءة في نص للمرة الأخيرة / بقل الناقد المغربي أحمد وليد الروح

النص 
******
للمرة الاخيرة 
سأحج لعينيك 
ألملم بقايا
صورة
هشمتها مراياك
وتركتني 
على 
سوادها بلا ملامح 
واعود لمحرابي 
معتكفا 
وللمرة الاخيرة سافتح 
لك ابواب القلب 
لتأخذي 
حصتك 
من ياسمينه
قبل صلبه 
وتركه للطير 
تأكل منه 
كيف تشاء 
سنوات عجاف رحلت 
ومثلها سنوات اتية 
ربما مر من خلالها 
عام للحلم 
وعام للموت 
وعام يغسلني 
فيه منك 
وتنثرني الريح 
للزهر 
غبار طلع لاتشكل
على هيئة اخرى 
ولكني اخشى 
ما اخشى
بقلم محمد صوالحة 
****************************************************

تُطلُّ علينا القصيدة و كأنها تطل للمرة الأخيرة ، و كأن الشاعر حين يتوعدها هي يتوعدنا نحن و كأنه يخبرنا أنه للمرة الاخيرة سيفعل ما يراه جديرا بالفعل ، او ما يتوجب عليه فعله ، فهو يطلُّ علينا كما لو كنا نراه بمرآة تعكس بصدق و شفافية كينونة الشاعر ، تعبّر عنه ، عن أحاسيسه الداخلية ، عن ذاتيته في تجلياتها المتعددة و ألوانها الشِّبْه قاتمة ، ألوان مشحونة ظلالاٍ مظلمة تعكس تجربة الشاعر الشخصية و محيط بيئته ، تعبر عن كل ما يخصُّه ( حياة ، أفكار ، أحلام ، عمل …) و شعوره المرتبط بعُمق تجربته في الحياة ، و أحلامه كشاعر له كيانه الخاص و وجوده الخاص ، و تلك صفة من صفات الشعر ، فالشعر جزء لا يتجزأ من الشاعر بل قد يكاد يكون هو الشاعر نفسه .
فحين يقول : ” للمرة الأخيرة ..” نحس و كأن هذا الفعل تكرر مراراً و أن الشاعر وعد أنه لن يوعود لتكرار نفس الفعل لكنه عاد ، مُرغماً أو برغبةٍ منه ، لا يهم المهم أنه عاد و اضطر لتكرار نفس الفعل ، لذلك يؤكد أنها ستكون المرة الاخيرة ..
إنها محاولة للبوح و الكشف عن مكنون الذات ، نحس أن هذا المكنون تشظى بنفس الشاعر ، فبعدما كتبه ـ نظم مشاعره و رصها بعناية ـ داخل قلبه ، تمزقت الأوراق و اختلطت ببعضها البعض فبدت القصيدة متكاملة سواء قرأتها من الوسط ثم عدت للمقدمة أو العكس ، فمهما قلبتها رأسا على عقب أعطتك نفس المضمون و صبَّت بنفس المصب الذي أراده الشاعر لها .
قصيدة تأتي بلون الظل الباهت المنعكس على المرآة ، ظل مُهشََّم بلا ملامح لا يكاد يُرى داخل مرايا سوداء ، و قصيدة تحمل انعكاس الشوق و الحنين ففيها ظلال الأمس البعيد و القريب ، و ظلال اليوم ، فالقلب قد احترق حاضراً وسط لهيب الأماني …
إن الشاعر ليمضي بنا في رحاب الحب و الشوق و الحنين ، يعود لمحرابه معتكفا ، و يأبى إلا أن يكون وفيا لها ـ الحبيبة ـ و يفتح لها قلبه لكن للمرة الأخيرة أيضا …
قصيدة بألوان مظلمة قاتمة لكنها تفرش أمامنا لوحات فنية آسرة تغوص بنا في عمق مشاعر الشاعر ، و تدخل وجداننا دون استأذان ، حيث تتزاحم فيها الأفكار و الرؤى ، بأسلوب سلس ، شفاف ، عذب و رقيق ، ينساب سهلاً دون تعقيد ، الأمر الذي يثبت مقدرة الشاعر وتمكنه من سبر اللغة و مفرداتها ، و رسم الصور بذكاء …
يبدو أن التناص مع آيات القرآن الکريم قد أخذ مجالاً واسعاً في شعر محمد صوالحة و لعل اهتمامه بالنصوص القرآنية و التناص معها دليل على ثقافته الدينية ، فالشاعر يقتبس من القرآن بعض الفاظه و تراکيبه، أو معانيه ، محاولا الكشف عن بعض الأبعاد الدلالية التي لابد للقارىء من المرور عليها للوصول إلی الدلالة النصية ، و في القصيدة يستعير الشاعر الصورة أو التعبير القراني يقلب دلالاتها الأصلية حيث يقول :
قبل صلبه
و تركه للطير
تأكل منه
عند قراءتنا لهذه الأبيات ، مباشرة يقفزُ إلی الأذهان قوله تعالی : ” فيصلب فتأكل الطير من رأسه ”
النص القرآني المأخود من سورة يوسف : ( يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا و أما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان ( 41 ) )
و نفس الشيء عندما يستعمل جملة سنوات عجاف التي نجدها بالنص القرآني بسورة يوسف : ( و قال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف و سبع سنبلات خضر و أخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون ( 43 ) . قالوا أضغاث أحلام و ما نحن بتأويل الأحلام بعالمين ( 44 ) و قال الذي نجا منهما و ادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون ( 45 ) يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف و سبع سنبلات خضر و أخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون ( 46 )).
سنوات عجاف رحلت
و مثلها سنوات اتية
ربما مر من خلالها
عام للحلم
و عام للموت
و عام يغسلني
فيه منك
و تنثرني الريح
للزهر
غبار طلع لاتشكل
على هيئة اخرى
و لكني اخشى
ما اخشى
بشفافية الأحاسيس المرهفة ، و صدق العاطفة يقتبس الشاعر لنا مفردات من النص القرآني محاولا البوح و الكشف عن دواخله ، اذ نجده يخبر حبيبته أنه سيفتح قلبه لها للمرة الأخيرة كي تأخد نصيبها منه قبل ان يُصلب و تأكل الطير منه ، فالشاعر يتنبأ بمجيء سنوات عجاف كالتي مرت و انقضت ، قد يتخلها عام للحلم و عام للموت ، و آخر يغسل الشاعر من حبيبته و يجرده من كل ما يعلق فيه ثم ينثره الريح للزهر غبار طلع ليتشكل على هيئة أخرى … إنها تأملات و أفكار وخطاب موجه من الشاعر لحبيبته ، و الإختلاء مع الذات الأخر ” الذات الشاعرة ” …
لكننا نجده الآن ينهي القصيدة بالغموض الامتناهي حين يعلن عن خوفه بل و يؤكده بالتكرار ( لكني أخشى ، ما أخشى )
قصيدة بشفافية الماء و انسياب الريح و عمق البحر و غموض النفس البشرية المتقلبة التي لا ترسو على حال …القصيدة أخدتنا من أنفسنا للبعيد و دعتنا للإبحار في ذات الشاعر و الكشف عن بعض اللآلىء التي يخفيها داخله .

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!