قراءة نقدية بديوان احلام باكية للشاعرة المغربية رحيمة بلقاس/بقلم : الناقد أحمد دحبور

حين اجمعت أمري للكتابة في هذه الدراسة النقدية , ساورني غير قليل من مشاعر القلق , وهو شيء تعهدته على نفسي كلما هممت بالكتابة عن انسان قريب من القلب والنفس , وتالله ان الاستاذة الفاضلة الشاعرة والانسانة : رحيمة بلقاس لها مكانة سامية في نفسي ووجداني , لم تزد مع مرور الايام الا رسوخا وصدقا , محسوبا لكريم اخلاقها وكمال انسانيتها , وفيض ودها , ما يقضي بكمال روحها ونبالة شيمها , وغزارة معرفتها , وصديقتي الذي شاء القدر ان التقيت بها وبالشاعرة الصديقة توأم
روحها ( احسان السباعي ) وبحضور بنتي ( بيسان ) الصيف الماضي , فهي شاعرة موهوبة ومن اهل القوة والوداعة , وهي لا ترى من الاخلاق الا اقتراع الذرى العالية , فاستطار قلبي فرحا لتلك الحفاوة التي كللتني بها هي واحسان , والتي غمرتني بكرمها وانسانيتها الفائضتان وان دلت على شيء فهي صورة جمعية لشعبنا المغربي الاصيل .
بامكان القارىء حينما يقرأ مجموعة ( أحلام باكية ) للشاعرة رحيمة بلقاس أن يتكىء على اسئلة محورية للأحاطة بما تقدمه الشاعرة في باكورة عملها الشعري الثاني وملامسة بعض ما تريد أن تضعه بين أيادينا.
ما المادة التي تقدمها لنا المجموعة الشعرية ؟
وما اللون الشعري الذي يطغى عليها ؟
وهل نجحت الشاعرة بتقديم مادة متميزة للقارىء المهتم والمبتدىء للنص الادبي ؟
ولمحاولة الاجابة على عن تلك الاسئلة , يمكن القول ان مجموعة ( احلام باكية ) تحشد سلسة زمنية على مساحة 40 قصيدة من القصائد الوجدانية التي فاضت بها مسيرة الشاعرة الخيالية متعاركة مع جانبها الروحي واثبات الذات على استفزاز الحس العاطفي لديها يشكل طردي مشبع بالوجع الذاتي والوطني والقومي والانساني , وبمجرد بدء رحلة القارىء مع المنتج الشعري , فأنه يلامس الارضية الثابته التي تقف عليها الشاعرة في تعاملها مع حيثيات الفكرة المطروحة , وهي تسرد مكنوناتها الشعرية المتأرجحة بين مشاعر محتلفة ومتعارضة في بعض الاحيان وهي التي أكدتها حين قالت في قصيدتها الاولى
آيا حمائم الروح تمهلي !
دثريني بظلال أمل رابض
بين دفقات موج
قيثارته تعزف غيمات أرجوانية
لأتغلغل بين أثداء نفسي وشراشف جفني
آتوسد مروج الشوق
أبتكر للعمر محطات الضوء
تملأ آنية الليل الفارغة
الا من قمر مدعوك
برعشات حيرة
تتناهشها جيوب الصمت
بين أخذ ورد
الشاعرة التي شكلت ضمائر المتكلم , في دثريني , واتغلغل , وآتوسد , وابتكر , تؤكد هويتها الشعرية والنفسية في نقاط ارتكاز محورية في بناء عملها الشعري وكبريائها امام المحبوب كلما صاغت له العبارات من خلال محاولتها ان يخضع الحب لضوءها وشوقها دون ان تخضع هي للحب , شاعرة تتصالح مع نفسها وتضع يدها على موضع الألم , وذلك ان تصالحها مع نفسها علّمها كيف تخرج الآه وتنفث من روحها الآلم , عرفها كيف تتحول الاشياء, وكيف يصبح القمر مدعوك برعشات الحيرة والقلق تتناهشها حمم الريح وجيوب الصمت
حلم يداعبني

ريح تشاكسني
وقلب يداهمني
ولي فيهما عين تراوغني
فأترجح في أراجيح الوجع
كل المراكب تخذلني
ومركبي حلم يرافقني
وحلم بالورد يداعبني
تطل علينا شاعرتنا بلقاس , كما لو كنا نراها بمرآة تعكس بصدق وشفافية كينونتها الشعرية تعبر من خلاله عن نفسها , وعن أحاسيسها الدافئة , وعن ذاتيتها في تجلياتها المتعددة والوانها القاتمة , الوان مشحونة ظلالا مظلمة وقاتمة ورياحا مشاكسة , ومراكب تعاند حلمها اليانع بالورود , الذي يظل يداعب شغاف قلبها , وهذا يعكس تجربة الشاعرة الشخصية ومحيط بيئتها , شعور مضمخ بعمق التجربة الحيّة واحلامها , كشاعرة لها كيانها الخاص ووجودها الخاص , فصراع الذات المتشظية والمنكسرة في عالم تحاول ان تصوغ فلسفتها ورؤاها الخاصة , هنا ذات الشاعرة المغتربة بنفسها ,التي تتجلى من خلال الآخر.
في المحور الاول تواجه الانا الشاعرة مع الآخر صراع فانتازي درامي وملحمي رصين , مستمدة رؤيتها من تفاصيل الواقع , موظفة ادواتها الفنية والشعرية , مانحة ايّاها مضامينها المعبرة .
عذرا يا أمواج الليل !
توشحت مئزر الأيام , ومضيت
مهرولة , اسابق الاحلام
عذرا ! فموسيقى نيسان
تعزف لي أغنيات الياسمين
أوصدت ابواب الخلف ,
وأشرعت الروح للمدى
ان احالات الفانتازية البكائية , أو حالة الهذيان التي تمر بها الشاعرة تأخذها الى حالات اللاوعي في طقوس الكتابة , لتأتينا بكل ما هو مدهش , وليست الفانتازيا للهو بالجراح , أو الهروب من الواقع في عالم بلقاس الشعري , ولكنها سفينة النجاة , حيث يجتمع الوعي باللاوعي والواقع الهش المتغير في رحلة صوفية لمست اغوارها واشرعت روحها وتضاريسها للمدى على عجل
,, ما العمل الادبي الا لغة مشحونة بالفن والدلالة ,, كما يرى عزرا باوند فطبيعة شاعرتنا طبيعة مغامرة تعانق الابداع وتحاول الاصطياد في المناطق الوعرة والعميقة , ملتصقة بالارض والانسانية وزفير الانفس المهتاجة ومعاناة تلك المرحلة السديمة بحق , تصمد في وجه الانواء وتعاقر بقلمها حاملة أمانة حلمها , ان لغتها لغة المسير على درب الآلام تعيش في وجدانها القدس وبغداد , وكمثقفة وشاعرة وانسانة تحمل هموم امتها المجبولة والمشتعلة بالآهات والحسرات والهموم , فهي لا ترى نفسها كشاعرة وانسانة بعيدة من أثم القدس ودمشق والرباط , فتواصل جلد ذاتها المحملة بالواقع , فتشتغل المخيلة الذهنية في وجدانها بمدلولها الوطني والقومي والانساني , والاحساسي , فتحتوي الموقف بموهبة فذة, فهي تتعامل بمنطق الامور , وتخضعها للفحص والتدقيق وتتعمق فيها دون أن تجعل من نفسها بعيدة عن الهم القومي , هذا المبدأ الذي رسمته بلقاس لنفسها في اطار من التوازن والوقار , كان ذلك قاعدة مقدسة لا تقبل التغيير أو القسمة على أكثر من أختبار
وشاح الحرير

هي ذي خيمة عربية
وتلك سيدتها القريشية
شموخ مزهر بعراجين عربية
كيف لا وهي من داست الدروع القيصرية ؟
وبخيولها لاعبت الدمى الرومانية
وهناك بغداد العراقية
بين احضانها الدفاتر الذهبية
تصحو سنابل الريح
في صرخة فراتها
والعجاج يصطك بين آضراس دجلتها
في قيامة عبور الصراط
الى ضفافها النديّة
وهناك قدس وأقصى
أليس من أبراجهما عرج سيد البشرية
فكيف بين الدمع والدمع ؟
وبين الماء والماء تصفعت دفقات سنية ؟
خسئنا ! ففي صفر السكون تلاشينا !!
رحيمة بلقاس شاعرة وطنية وقومية اجادت نزف الحروف , فهي ضمير الامة وحارسة ثغورها , فالشاعر اكثر الناس شعورا بمرارة الانهزامات والانكسارات ووخز الخسىء , فالشاعر نقيض السياسي , متعدد الوجوه اللامعة والحالات المتناقضة , بلقاس التي تحمل في وجدانها وقلبها الوطن العربي الكبير الذي يسكنها وتسكنه , أو السجن العربي الكبير , تسلط هنا على جوانب الفجيعة التي تريد لها أن تنتهي وتكتوي بنارها اكثر من غيرها , ينفتح الخطاب المقضى الرهان في بعده السياسي وانعكاساته الاجتماعية على نفس رحيمة وترتفع بالنص الابداعي الى آفاق متسامية حيث سير الواقع العربي , فذات الشاعرة هنا ذات قومية وكونية في التحليل الاخير, فهي في كل اشعارها ونثرها حققت استجابات نفسية لواقع عملت على تحميله وتجميله اقصى الطاقات لتتألف معه من خلال طاقة اللغة بألياتها واجراءاتها الجمالية والفنية , وعمق المضامين الثاوية في نصوصها الشعرية المنفتحة على التفسير والتأويل بأثرية الرمز المستحضر وحسن قرائه , فتتقده من مضامينه لتضفي على الواقع التباساته الذكية
فلانك أنت أرثيك

فلاأنك اوزريس
ولأني أوزيس
الملم اشلاء المسرات
واحلق طائرة أمنيات
من هنا نفهم رؤية بلقاس ان الشاعر معني بمراجعة ثورته الابداعية من خلال الاطلاع على الموروث الحضاري والانساني في عالم تتلاقح وتتماهى فيه الحضارات والثقافات لتوظيفها في تحقيق الرؤيا والعالم المتخيل , تتكون عناصر القصيدة بوصفها اجزاء من كل . لذلك تحاول رحيمة الغاء الفاصلة بين الايقاع الداخلي بين الصورة واللوحة . بين التشبيه والكتابة , تصل الى الرمز وتحاذيه , تمسه وتعود الى تداعياته , نحن في هذه المجموعة امام جملة شعرية مستديرة , تنتهي حيث تبدأ لكنها تتقدم في داخلها , اي في جدل عناصرها الداخلية وليس في جدل يقع خارجها , لكنها , كجملة , تقع في بعض اللحظات ضحية صخبها , فتقع على صورة بالغة الغرابة تكسر الجدل وتجعله حادا . او في المقابل تنحني في جمل غنائية بالغة الشفافية , حتى وكأنها تصبح قابلة لنفي نفسها .
ماذا يريد الشعر ؟ حين تعلو الفجيعة وتمتزج بالبحر , يصبح الشعر موجة , تلتقط بلقاس هذه الموجة وتعيد صياغتها , هنا تصبح الفجيعة احساسا تاريخيا حادا ,تتلون بتداعيات اللغة , وتترك المكان فسيحا للحلم , فيبني الشعر اسطورته الخاصة انطلاقا من رموزه الخاصة , هكذا تتوحد اللحظة بمستقبلها , لقد استطاعت شاعرتنا المغربية رحيمة بلقاس في مجموعتها الاخيرة , ان تشحن كلمة واحدة بالدلالات , حتى أصبحت مرجعا ثابتا لفهم ابعاد القصيدة , بوصفها تلخيصا لمأساة جماعية , فهي حين تضع المفرد بلهجة المخاطبة المباشرة وغير المباشرة , فانها تذيبه بجماعية مستقرة خلف كلمة ,, توشحت منزر ,, الايام التي تلخص تجربة واقعية بنبرة مأساوية جديدة .
قوس قزح
قوس قزح … جوف اليم تكسر
الوان من نجوم الضياء تثمر
عنقود الكروم بالبيدر
انتفخ .. أختمر .. اجهر
بفضل الجزار اعلن بفرح
علها تمحو عنا اللون الاحمر
يسيل الصباح بالنور
تتغذى الشمس بالتغريد
وصوت الطير يصدح
ارواحنا عصافير
سمفونية الحرية تعزف
من خلف سرايا العلياء تجهر
انها لن تنام الا بسلم وسلام ينشر
وثأر من سفاك يؤخذ
من بين الصخور سيل غشمر
يغلي الحمق المتجرر
يهجس يالصراخ يغدمر
هذا النص والنفس الطويل الذي تتمتع به شاعرتنا في مجالي الشعر الذي يداعب الموزون والمقفى , وقصيدة النثر لتصل الى قدرة فنية عالية فللقاعدة اللغوبة علاقة جمالية في المقام الأول لا مجرد أداة لتوصيل المعنى الجاهز والمحدود وانما تسعى رحيمة بلقاس التشكياية وتوسيع فضائها النثري الأيحائي والدلالي معا حيث نوع التصاعد بين زمن النص في طاقته الخارجية , وفعل الكتابة بنزفها ورشحها الداخلي ضمن لغة دافئة وخيال خصيب وأنساق متناثرة تكشف عن مزاج شعري أصيل وارتبطت هنا قصيدة النثر التي تجيدها شاعرتنا في الأطار الحداثي بالكثير من المجاز والتكثيف أو التوهج , وتعدد الدلالات وفي هذه القصيدة تتجلى رؤية الشاعرة ووعيها بالحياة والهم الوجودي معا حيث تعيش الشاعرة واقعها وتتمرد عليه تمردا عينيا يقوم على المونولوج الداخلي أو الحوار مع الذات ومع الآخر الجمعي مع توظيف السؤال باعتياد نتيجة سيمولوجية تعبر خيرة الذات وقلقها , كما تدفع المتلقي للتفكير مع الشاعرة باعتبار ان السؤال هو بداية المعرفة وكنوع فني في الديوان يطرح أشكال التمرد على الواقع بين ( التوستانجيا ) أو الحنين الى الماضي تارة , باعتبار الماضي فصل من هذا الواقع الآتي , وتارة تحلق واقع موازي للحلم بالمستقبل بيجعل الديوان يصل الى أسئلة الوجود التي تعكس رؤية الشاعرة تجاه الكون والحياة فالشعر لم يعد قائما على الزخرفة الشكلية عالم لم يتصدر بحداثة الوزن والقافية , أو أن هناك قاموسا شعريا وأخر نثريا ولكن تتحقق شعريته يالتركيب والمجاورة , أي من خلال ممارسة المبدع التي تفضي فضاءاته الى منتوج دلالي عبر اللعب باللغة وأختراق نظامها المجازي والدلالي , فيصبح الشعر نوعا من اللغة , كما يؤكد ,, جون كوين ,, والشعرية تمثل ,, حدود الاسلوب لهذا النوع وهي تفترض وجود لغة الشعر ,وتبحث الخصائص التي تكونها باستخدام التفاعيل محاولة للخروج من الكلاسيكي والتقليدي المقيد باستخدام قوة المفردات من شعر التفعيلة النثري فمعظم الايقاعات الشعرية في هذه القصيدة على وزن فعول , فمعظم قصائدها تمتاز بالطول ووحدة الفكرة , وتكاد في معظمها تتطابق في الهدف نفسه , وان اختلف القالب او المفجع والموجوع وراء كتابتها , وقد تمكنت رحيمة من تطويع اللغة الفصيحة في هذه القصيدة المحبكة الى حد بعيد , ان ما يميز اشعار بلقاس الاسلوب المباشر البسيط الواضح بحيث تبتعد عن الاحاجي والغموض , وقد استطاعت شاعرتنا ان ترسم عباراتها وكلماتها بالكفاءة التي تتمتع في حسياتها القدرية والمهنية ,فالمتعمق في قرائتها يجد حيثيات العمل والجهد , كانها نحلة تعمل على رفد خليتها بالشهد , انه ليس عملا للمتعة او رحلة سندبادية في الفراغ
ان التداول السيميائي بشبكة الدلالات في حركيتها المشعة يناسب تموجات وتدافع الايقاعات وينحني للتفعيلة المتحركة , حركة مهيأه للأنفجار في اي لحظة , كما يبدو ذلك من طبيعة الانطلاقات الموسيقية التي يحظى بها الحراك الايقاعي المتوج في فضاء القصيدة , على النحو الذي ينتج شعرية غنائية لا تكتفي في تشييد نظامها الشعري بدلالة الايقاع فحسب , بل بآلة الدلالة والمعنى والموضوع والقيمة والصورة والرمز والمجاز والرؤية والرؤيا في نسق شعري فضائي تحرسه التفعيلة وتحقق ايقاع موسيقي جميل داخل تشكيل لغوي انيق بصور آخاذة ونابضة , لكن الشعرية الغنائية في قصيدة ,, قوس قزح ,, ظلت فاعلة ومشتعلة ضمن مسار شعري متقارب , ينهض على التفعيلة التي تقف على حواف القافية الموزونة دون ان تغرق فيها وتفجير امكانياتها الموسيقية الغنائية , وتفعيل حضورها الموسيقى والايقاعي العفوي , يتكسر ويتحد , يعلو وينخفض في امهر , واحمر , فزمجر ….. الخ اذ ارتبطت كل الاسطر الشعرية برباط التفعيلة الشعرية على النحو الذي يتلائم مع حاسية الدفقة الشعورية وطبيعة موضوعها الوجداني داخل فضاء قوس قزح , في لفظة شعرية متماسكة على الصعيد الدلالي والأيقاعي .
وتنفتح الجملة الشعرية البلقاسية على فضاء الصراع الشعري لتثبت ايقاعا شعريا غنائيا متموجا مهم في بناء شعري غنائي يقوم على درامية التموج الايقاعي في حركة الافعال المكونة للصور , بحيث ينتهي جوهر الفعل الشعري لذات الشاعرة الجمعية الى تقنية ايقاعية جديدة وحديثة .

فشبكة الضمائر المقترنة بالذات الشاعرة هي تفصح عن حضورها المحتشد والمتراكم لتحقق ضغطا ايقاعيا لافتا .
وفي خضم هذه التشابكات الشعرية الايقاعية والدلالية التي حفلت بها القصيدة , تتشكل ما اصطلح على تسميته بالشعرية النثرية الغنائية التي يتضح فيها عنصر الغناء الشعري لتكون شعريتها الخالصة , بكل ما هو متاح من مصادر تمويل شعري وايقاعي ودلالي ورمزي تتفاعل فيما بينها بطريقة هندسية لا تخفى ولعها التشكيلي بالخطوط والالوان والاشارات بحثا عن رؤية شعرية ترتقى الى مستوى الرؤيا
أطفال الرعاع
أقتفي رث الأصداء
جثث الرياء
تنوس بعقم الماء
هو أن يكتنف الدماء
مكر على مشنقة الفقر
يوزع بسخاء
تبجج علا المنابر
لوحات ترسم الأقنعة
أصباغ شوهت معالم الكبرياء
أكبر من الشفقة
أكبر من توزيع الهبات
ورذاذ العظماء
ترتجف الأنا
يهتز عرش السماء من يشتري الموتى ؟
من يحنط اجساد الشقاء ؟
من يزرع بها صلابة ؟
أصلب من قمم الشماء
وراء كل عمل ابداعي ثمة ضاغط يقف وراء ذلك العمل وهذا ما اسميه الموقف الابداعي او الموضوعي الذي يحدد هوية المبدع , فالموقف الفكري الذي يقف وراء العمل الابداعي , ويشكل صاحب الابداع , هو الذي يحدد شاغل المبدع ومذهبه الأدبي , وهذا الشاغل يبرز ويعلو . ويختفي ويتوارى ويختفي أحيانا داخل القصيدة الواحدة , ويلوذ وراء الاداة التعبيرية التي تنوب عن حضور القيم والصريح الخطابي , يلوذ بالكتابة , ويلوذ بالصورة ويلوذ حتى بتقنية الاشتقاق وبغيرها , ولكل شاعر مذهبه في ذلك , وكلما تعالت لغة الابداع , ارتقى الخطاب الفني , وعلى العكس , كلما تربعت المقولة الصريحة داخل النص , تنحت ادوات التعبير وتراجع دور الفن والابداع لصالح الخطابية والمكاشفة الفجة , الابعد عن الشعر , ويصبح الابداع خاليا من نبضه ويشكل آنذاك مقارنة ساذجة مع البيان السياسي المكشوف ونكون امام الشعر الخطابي المنبري , وربما التعليمي , ومجمل تجربة الشاعرة بلقاس دوما هناك موقفا فكريا ملتزما بقضية طبقية في بعدها الأقصى , ووقفة اجتماعية ووطنية مفتوحة على أفق انساني في بعدها المنظور , ولكن هذا الموقف يظل خارج النص ووراء دوافعه ومرتكزاته وفنيات بنائه .
فشاعرتنا جريرية تغرف من بحر وفرزدقية تنحت من صخر تحلق بحلم وحكمة المتنبي
فالانا – ذات الشاعرة – وانثى الوجع والاغتراب والعلاقة ما بين هذا الثالوث المقدس في المجموعة يظهر جليّا لنا وصف الحالة النفسية , للشاعرة , فكان لها نصيب الاسد فيها لدرجة بحيث يمكن القول ان الانا والآخر حاضرة في مجموعتها من خلال ربطها بحالة الشاعرة , وليست من خلال ملامحها الجسدية , وحضور من خلال حالتها النفسية والروحية المقهورة ,فالانا ترتجف ويهتز عرش السماء لوجعها المسكون بالوطن وبفقرائه .
غيظ يعج بالاعماق
خذلان وطعن
شلّ الانفاس
الآه ترتعد
الصمت الضائع
اختلق الكلام
شهقات تمزق الأوداج
تغتال الحشرجة
تشيع ومضات
تشتعل بمجامر الانتظار
في مهب التيه
صراع الانا هنا يواجه الاخر الظالم من يفجر الدمع في الاحداق والقلب ينزف شجنا بجست الجراح من سوط الطغاة والفجر ينتحب يصارع نباح ظلالهم والغيظ يعج في اعماق الشعب والشاعرة ويشل الانفاس والاهات تتصاعد وترتعد والكلام مختنق في الصدر, في هذه المواجهة بين الانا المحاصرة بالوجع وبين الاخر الذي ينتشي بسادية على اوتار الشجن للتائهين في الارض . فالشاعرة تعبر بصدق وسخط على غلاة القاهرين وتتعاطف مع المقهورين وتحدد هوية انتمائها لطبقة الفقراء في نزف حروفها وصورها المفجعة الدامية بفنتازيا الوجع .
بلقاس : شاعرة ذو طاقة ابداعية غزيرة لها حضور متميز لما ابدعته من صور فنية معبرة عن المرحلة التي يمر بها وطنها الصغير ووطنها العربي الكبير , فتعبر عنها بشفافية صادقة وجارحة تجلت فيها همومها واشكاليتها , وكانت قصائدها تنهيدة عميقة من الآه استنطقت منظومة التداعيات والتراسلات لبلوغ الصدق النفسي والفني المطلوب وتآلقت شخصيتها العفوية والتلقائية الأصيلة التي استجمعت القوى الذهنية والانفعالية للذات , وعلاقتها المنفردة بالعالم المحيط بها , وهي ذو موهبة عالية وحساسية طاغية وحماسة لاهبة لقضايا وطنها وأمتها وتجلى ذلك في قصيدة ,, تمهلوا ,, وقصيدة ,, يا قدس ,,
فالوطن عند بلقاس نشيد موج يتأهب ينجب في كل صباح طحلبا يتضخم , ففي هذه القصيدة تظهر هوية شاعرتنا الوطنية والمستنيرة في مواجهة خفافيش الظلام والارهاب الذين يزرعون الشوارع دما مسكوبا بجهلهم وعميهم وظلامهم وتصفهم بالاباليس الملعونة وتصرخ في وجه آلهة الكراسي وهم ينظرون الى الأصابع المبتورة وهي تعلن عقم الاسئلة
تمهلوا !!
الوطن نشيد موج يتأهب ينجب في كل صباح طحلبا
يتضخم
وتضيف وتعري هوية الظلمة وجهلهم
زهد العقل المغيب
تتسع سجادة تجهيل على الأعشاق
سكينتها مشحدة الحدين
لا تترفق ,
وبالايادي مسبحة بالزيف
تترنم
عن الالهة خلعت
تيجان القدسية

بالأرهاب تومىء للوطن منعوتا
والناعت نعتا منصوبا
نصب فرقعاته ديناميتا ونوويا
دون حدود
تبت ايادي الشر وتب
ما أغنى عنهم جهلهم وما العتب
وعلى جهل بابصارهم استتب
ونرجسيتهم حمالة الحطب
في جيدهم حبل من مسد
فملة الكفر واحدة من أبو لهب وأبو جهل الى عتاة الأرهابيين الذين صبوا جام جهلهم واحرقوا الأرض وما عليها من لهب , هنا تناص مع القرآن الكريم نجحت شاعرتنا في توظيفه من خلال توظيف سورة ,, المسد , في فضائها الشعري لتفضح دعاة الدين المزيف الذين استخدموه للأرهاب والتضليل وحرق الأخضر واليايس
يا قدس !!

نرثيك يا قدس
قد سبح الليل بقسمات السراحين
كي تكبر الانواء
تحت قميص الهوان
تدق طبول الجمر
هتفه في آذان الأقصى
وسوريا تلوذ بشغاف اللظى
عاجزة عن تطهير بردى
من شطحات الشيطان
تتأرجحين يا قدس !
بمراجح الانتظار
بلا حدود
على ضفاف الافق
عتمات تفض الأسرار
والاسرى داخل الأسوار
تلهج بالفتوح
حاملة مشعل الاصرار
يا قدس

ما جدوى الرثاء ؟
الأسياد جهدهم حراسة
الامان
وضمان تاريخ الكراسي والسلام
هوايتهم السير في جنازات الأزهار
واصطياد ومضات الانوار
فلا حياة لها الا في الظلال
كخفافيش الظلام
ما جدوى الرثاء
رحيمة بلقاس شاعرة مرهفة الاحساس , تحاول العثور على وحدة العالم العربي وترى هذا العالم يبدأ من ذاتها ووطنها , تكتب عن الانسان المعذب في كل مكان وهي شديدة الالتحام وجدانيا وادبيا وسياسيا وانسانيا بالوطن العربي الكبير , صاحبة رسالة انسانية نبيلة , فعبرت عن محن شعبها في فلسطين وسوريا والعراق اشد تعبير وكشفت زيف الطغاة سواء كانوا عربا ام صهاينة ام غربيين وعبرت عما تعانيه هذه الشعوب وتلك المقدسات من ظلم وبهتان وعرّت من يجلسون على الكراسي من ساسة القوم دون مبالاة بل يشاركون الجلاد الرقص على دماء الضحية , عبرت بألم يتعمق في وجدانها ولوعة أسى , فكرامة الانسان ومقدساته وترابه وذاكرته وذكرياته هي المحاور الاساسية لمضمون اشعار رحيمة , واحساسها عميق وصادق وتستسثمر طاقاتها الابداعية في اللغة التعبيرية ودلالاتها وترميزاتها ممهدة للغة شعرية حداثية متطورة , فتترك على الروح والقلب أثار لا تمحى وعلى صفحة النص قلقا وسخطا يستحيل فهمه وتقدير حقيقة تشكله اللساني والايقاعي والدلالي من دون الدخول في قلب الاطار الذي تتحرك فيه الرؤيا في هذا النص , وتتواصل مع التاريخ وتنحو في بنائها اللغوي منحى اللوحة التشكيلية في خطوطها والوانها وتميل الى تأكيد الصورة الكنائية ذات الطبيعة النثرية المثقلة بالهموم والمواجع , فواقع الامة الممزق الذي ترصده الشاعرة يبعث على الأسى والخزي والتفجر والقهر , لكنه في نفس الوقت يخز في جسد الأمة وخزات مؤلمة لتستيقظ من سباتها وتقف على قدميها قبل ان يطالها الفناء وتدخل في نفق الانقراض والانطماس , فالواقع المأساوي الدموي للقدس ودمشق الذي يدمي قلب الشاعرة وعينيها ووجدانها يكتب بحر الشهداء ودمائهم ليزهر في المستقبل زهرا ووردا

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!