قراءة نقدية و رؤيا في نص (( فوضاي الكبرى ))  للشّاعرة  نزيهة شلخي موسى/ بقلم الكاتب والناقد: حسن علي الحليلى / القاهرة – مصر 

إن نص الأديبة المبدعة \ نزيهة شلخي موسى ليسَ كغيره من مألوفِ الأدب .. لا لأنّ له طعماً خاصّاً ومذاقاً فريداً ونكهةً مُمَيَّزةً فحسْب.. بل أيضاً لأنه يحتاجُ قراءةً خاصّة.. فهو ليس ذلك النوعُ من الأدب الذي تقرؤه على عجل.. وتكتبُ عنه انطباعاتٍ سريعةً عابرة..وإنما ينبغي عليكَ أن تتهيَّأ لقراءته بكثيرٍ من الصبرِ والحَيْطةِ والحَذَرْ.. فهو أشبه بوردةٍ برّيّة لن تتمكن من استنشاقِ عبيرها دون أن تُدْمِي أصابعك بوخز أشواكها.. وهو أشبه بالعَسَل الجَبَليّ.. لن تشعرَ بحلاوته المُسْكرة في فمك دون أن تحتمل لدغات النحل..
ثم إنه يتطلبُ من قارئه مراساً ودَرَبَةً ومعايشةً واستئناساً..فلا تتعجّل الكتابة عنه بعد قراءته.. لأنه يحتاجُ منك قراءة ثانية وثالثة .. وفي كل مرة ستجد نفسك في حاجةٍ إلى معاودة النظر..والإطلال مرة أخرى على هذا العالم.. فكل قراءة جديدة قد تُقَرِّبُكَ منه خطوة لكنها بالتأكيد لن تُسْلِمَك مفاتيح هذا العالم المليء بالرموز والمجاهل والأسرار
قصارى القول أنك إزاء هذا العالم ينبغي أن تَسْتَنْفرَ كُلَّ حواسِّك وتتسلَّحَ بكل ما يمكنك من نفاذ البصيرة وحدّة الإدراك وملكاتِ التذوق .. فالنص الأدبى هنا أشبه بمهرةٍ بَرِّيَّة جامحة.. لا يقدر على ترويضها واعتلاء صهوتها غير خَيّالٍ أصيلٍ متمرّسٍ بالخيْلِ والشعرِ معاً.
لا أدري لماذا يُذكِّرُني شعر المبدعة نزيهة شلخي موسى  ببواكير الأديب الكبير محمد عفيفي مطر.. في روايتة “من دفتر الصمت” و “ملامح من الوجه الأنبادو قليسي”.. اللذيْن كانا أشبه بحجريْن هائليْن ألقيا ببحيرة الأدب العربى التي شهدت فترة سكونٍ بعد الانقلاب الذي قاده الرُّوَّاد الأوائل للنص الأدبى نازك الملائكة وبدر شاكر السيَّاب وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي وغيرهم ـ فحَرَّكَا الماءَ الرَّاكدْ و رفداه بروافد جديدة.
هناك أوجه شَبَهٍ كثيرة بين العالَميْن؛ عالم محمد عفيفي مطر ـ في إرهاصاته البكر الأولى ـ وعالم الأديبة نزيهة شخلي موسى في تجلّياته المعاصرة، ربما كان أبرز القواسم المشتركة بينهما هو عناية كل منهما بخَلْقِ العَالَمِ الأدبى الخاص المشحون بطاقةٍ حَيَوِيَّةٍ هائلة كانشطار الذرَّة، المؤلَّف من جُذاذاتٍ من الصور المركبة والأخيلة الكثيفة واللغة التعبيرية في أقصى حالاتها إيحاءً ودلالة، والرَّمْزِ المُشعّ الذي يتوهّجُ داخل العمل الفنيّ فيُضْفي عليه بهاءً وسحْراً وألَقاً، دون أن يُفْصحَ عن مكنونه ويشي بأسراره.
النص الابداعى الأدبى عند نزيهة شلخي موسى هي عصفورة النار التي تُشعل في دمنا الحرائق وتلامِسُ مِنَّا منابع الحِسّ وتَخْمِشُ بمنقارها نخاع الأعظم، حين تحملنا على جناحيْن من لهبٍ إلى أقصى وأبعد مراقي الخيال، وتنبشُ بمخالبها الدقيقة في صخور اللغة بحثاً عن كنوزٍ وجواهر لم يسبقها إليها أحد..
نزيهة شخلى هي مهرة النص الابداعى الأصيلة التي تنطلق بنا في قفزاتٍ جامحة تنخلعُ لها قلوبنا أحياناً، وتُحتبسُ أنفاسنا خوفاً ودهشة ورَهباً، لكننا نظلُّ طوال الرحلة ـ مأسورين بخَدَرِ المغامرة ولذَّةِ الكَشْفِ، مأخوذين بسحْر المجهول الذي نرتاده، مبهورين برؤاه ومشاهده وكائناته الغريبة، مَسْلوبي الإرادة كصوفيّ أخذته سكرة الوجد وشفَّ وجدانه عن عالمٍ مليء بالرموز والإشارات والإيماءات الخاطفة مِثْلَ سماءٍ مُرَصَّعةٍ بالنجوم مُضَبَّبَةٍ بنُدفٍ من غيوم شفيفة.
لذا يَجيءُ نصها الأدبى كشفاً جديداً مُتفرداً في جِدّتِهِ صادقاً في أصَالته، مُرَاوغاً في مُرَاودته للعقل والوجدان، يفِرُّ من فخاخنا كما تُفلتُ الغُزلانُ في خِفّة ورشاقة من قبضة الأسْر ، لكنه يُخلِّفُ في نفوسنا أثره العَميق وأسئلته المُعَلَّقة، فنعاود الرّكْضَ والطّرادَ دون كَلَلْ.
الفنَّ الأصيل كائنٌ حَيٌّ لا يَمْنَحُ نفسه بسهولة. ونص نزيهة شخلي كائن له ذاكرة وتاريخ، تشعرُ معه بالإمتاع والمؤانسة، لكنك لا تظفرُ بخباياه وأسراره قبل أن تعايشه وتنعقدُ بينكما أواصِرُ الألفة، ومع ذلك يبقى مُتأبيّاً على الاسْتيعابْ، مُسْتَعْصِياً على الترويض، لأنه قِطعةٌ مُقْتَطعَة من الحياة بكل تَدَفُّقها وعنفوانها وغموضها وسِحْرها الجميل.
تأمَّلْ معي هذه الدفقة الشعورية التي تصبُّ فيها شَوْقَ حبيبةٍ لمحبوبها ونزوعَها التّوّاقَ إلى الامال والاحلام.
فوضاي الكبرى
أنا لا أكتب ۰۰۰
أنا فقط أستدعي حواسي كلّها غير منقوصة
أروّضها على العبث بالصّفحات الشّريدة 
أطرحها على أرضية لزجة 
و أتركها تتزحلق على جروحي الطّريّة 
هكذا فقط كنت أستطيع أن أضمدها و أضمن شفاءها
أنا لا أكتب ۰۰۰
أنا فقط أحاول أن أتموسق مع النّشاز الّذي بات يصمّ الآذان  
و يفسد الأغاني الجميلة ٠٠
يشوّش على صوت المطر و هو ينقر على زجاج نافذتي كلّ صباح
يعكّر صفو السّكينة الّتي ترافق مساءاتي الرّتيبة 
و يصرّ على أن يطردها إلى ما وراء النّص .
۰۰۰۰ إلى ما بعد النّبض 
أنا لا أكتب ۰۰۰
 ولا أصنع شيئا كبيرا 
أنا فقط  أشيّد القصور من رمل المعاني و أرش عليها من رذاذ البوح.
أنساق حافية القلب نحو غواية الحرف 
يسحرني بقدّه الممشوق و يثير قريحتي 
أنا لا أكتب ۰۰
أنا فقط أستوعب نفسي أكثر من اللازم
 أتغلغل بين تلافيفها 
أصغي إلى أنفاسها الحارّة و الباردة 
أحسّ بموضع الغدر ولا أخطئه 
أشم رائحته عن بُعد أميال 
وحده من يستفز خلاياي الميّتة و ينشطها 
حتّى النّوم لا يمكنه أن يستغفل صحوتي 
في الليل عندما يهدأ الكون تبدأ فوضاي الكبرى 
أغرق في تساؤلاتي عن الوجود و الكينونة
كيف للأرض أن تدور و أنا جاثمة بمكاني
لا شيء تحرّك من حولي أنا فقط من أتحرّك
أنا لا أكتب ….
أنا فقط  أفتح عيناي بكلّ وساعتهما و أحدّق في الفراغ 
في النّصوص الطّويلة الّتي لم أكتبها بعد 
في الرّسائل الّتي لا تزال عالقة بالصّندوق الوارد لهاتفي الذّكي
بالحقائب الّتي لم أتجرّأ على فتحها منذ آخر سفرة لنا
تستوقفني كلّ المحطات الّتي عبرتنا 
كلّ ما عاد يهمني تفاصيلنا الصّغيرة لأنّها نحن 
أنا لا أكتب 
أنا فقط أصرخ عندما تتعاظم الأنَّات بداخلي 
تنفلت الحروف من مسبحتي الصّوتية 
تخِرّ عى الورق منهكة القوى 
تستسلم للحبر و تُفضي له أسرارها الكونية 
تبوح له عن كلّ ما قيل و ما لم يقال 
هكذا فقط تذعن لجبروته حبًا و طواعية .

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!