مراوغة الأنا، وتعدد سياقات التلقي في رواية ” حجاب السَّاحر” ل.. (أحمد الشهاوي)

 

كتبت : منال رضوان

مقدمة:

مرة أخرى من مرات كثيرة يعاود الشاعر والكاتب والروائي أحمد الشهاوي إبهارنا بفريدة جديدة من فرائده، معلنًا البوح الذي اختار أن يسلك دروبه الوعرة قبل سنوات، فمنذ العمل الشعري الأول ” ركعتان للعشق” والذي صدر في العام ١٩٨٨، قرر الشهاوي أن يسلك سبل الكلمات، في مفارقة قدرية تعلن رفع أذان البوح، وكما توضَّأ الحلاج بدمائه، توضَّأ الشهاوي بكلماته، حتى اِنسالت حروفه رقراقة كمياه بين أصابعه، لم تفتر أبدًا ولم يهدأ مَور أمواجها؛ فأبدع حتى صنع له سماء باسمه، بين سماوات الشعر والعشق.

وبذلك الحس الشعري، أدرك أن تكثيف اللحظة الآنية وحضور الذات في مئة قصيدة قد لا يشبع نهمه تجاه الحكي، فالصبي المولود بين نهرٍ ومقام، اكتوى لسانه بجمرة اليتم منذ نعومة أظفاره؛ تلك التي صنعت له لُثغة خفيفة، لكنها حلت عقدة من لسانه، فانسابت أشعاره وترجماتها وعمت أرجاء المعمورة بلغات عدة، كما منحته الجمرة ذاتها، تلك الرغبة الجامحة في التعلم والتأمل والكتابة؛ ليبسمل في كتب الشعر والعشق مترنمًا باسم معشوقته الأثيرة، ” نوال عيسى”، إذ إنها المُلغز لديه والطلسم كما أنها مفتاح الشفرة، كلما حل اسمها فوق كتاباته، فيكتب أحمد، ويقرأ العالم كله كلماته إليها، كأنه مع كل إهداء إليها يركل باب منزلهما بكفر المياسرة؛ ليطرح على عتباتها شهادة تفوق اجتيازه الاختبار الجديد..
وها هو الشاعر العاشق، ما زال في جعبته الكثير من فنون السحر وإعجاز الرؤى، وهو ما يجعله يطرق الباب هذه المرة بهدوء وروية؛ ليخرج لنا ما في جرابه من حكايات عجائبية، معلنًا بها كشف الغيم وشق شعاع الشمس، حجاب الساحر.

عن الرواية:

“حجاب الساحر”، عنوان رواية أحمد الشهاوي الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية ، وفي غلاف مُوحٍ من تصميم الفنان أحمد الصباغ، أجاد التعبير فيه عن الفكرة؛ حيث لوحة خلفية لفتاة ذات شعر أسود، تتجه ببصرها صوب الشمس، محاولة التخلص من نير سِحْرٍ يكبلها، ويبدو أنها رائعة الجمال، فهكذا سيخالها كل من قرأ أوصافها التي أطلقها الشهاوي، والذي يوغل في الغموض بعنوان من كلمتين حجاب وهو في اللغة:
– الحجاب: السَّاتر وجمعه أحجبة.
وهو ما أشُرف من الجبل.
والحجاب: عُوذة أوتميمة يحملها الشخص معه؛ لتقيه من الشَّر والحسد.
أو: كل ما يحجب ويغطّي.

٠ وفي (فلسفة التصوف) ما يفصل بين شيئين ويوصل إلى الله……*
وبين اللفظين ( السَّاتِر والتميمة) تبرز المفارقة الجدلية، ويتكشف الصراع الوجودي لدى بطل الرواية من خلال محاولته شق حجاب السحر الأسود، الذي يحجب عنها النور ومن ثم الحياة، وبين التمائم التي يحاول أن يرصع جسد حبيبته بها؛ ليقيها الشر.

“عمر الحديدي”، العالم بفنون السحر والعاشق ل.. “شمس حمدي”، هذه المرأة الفاتنة التي تمتلك ما لا تمتلكه أنثى سواها؛ فهي الجميلة والمثقفة والراقية والحنون والآسرة، التي تعاني من آثار السحر الأسود، حاكته مكائد “غازي الشحات” لها، وهو زوج شقيقتها الوحيدة، ومع محاولة عمر إنقاذ حبيبته تتكشف لنا أسرار هذا العالم المليء بالخبايا.
ومن الملاحظ أن الرواية تسير وفق النسق الأفقي، حيث تعدد الأماكن والأحداث التي تمنح رحابة في التأويل؛ وتجيز التعدُّد في سياقات التلقي، وسنذكر ذلك تفصيليًّا :

أولًا : أسلوب السرد،

– استخدم الشهاوي في روايته الأولى الأسلوب السردي المباشر، أو ما يعرف بالراوي العليم، مع تمازج صوتي وتعددية يمكن اعتبارها بوليفونية باقتدار، وذلك على مستوى أحد سياقات التلقي، وهو ما يجعل العمل يصنف على أنه من أعمال كتابة (ميتا سردية) بامتياز؛
إذ نجده منهمكًا بشكل واعٍ وقصدي بكتابة سيرة أو نص سردي آخر داخل النص الروائي واستخدام حواشٍ وتفاصيل بدت كمنمنمات صغيرة، تصطف إلى جوار بعضها البعض؛ لتشكل البناء السردي في شكله النهائي، وبذا يتضح أن الهم السردي عند الشهاوي قد تصدَّر الواجهة الأمامية لنصه الروائي، مثلما سبق وأن احتلت اللغة الواجهة الأمامية في نصوصه الشعرية.

ولكي نستطيع أن نزيل بعض الغموض عن ذلك النص، ينبغي لنا أن نتعرف أكثر إلى “شمس حمدي” من تكون؟
هنا ونحن أمام التأويل وفق حدس السياق الفيمونولوجي، يمكننا اعتبار أن هذا النص، أحد كتابات الاحتفاء بالعشق والتي يزخر بها تاريخنا العربي، وتمتاز بخلع الأوصاف الحسية والافتتان بجمال المرأة وتمجيد الجسد، والتأمل في جمال الموصوف ليقص الكاتب مرويته، كما فعل “عبد الرحمن الجامي” **- كمثال – في روايته “يوسف وزليخا- رؤية صوفية “؛ إذ افتتن بزليخا، حتى أجاد في وصفها كأنه يراها.
فيظل الكاتب يترنَّم بجمال معشوقته في نشيد إنشاده’؛ للولوج عبر أودية المبتغى والقصد، – فحسب أحد العارفين” – يَعْبُر المريد أو المحب إلى بغيته، عبر (وادي الطلب) ثم يدلف إلى وادي العشق ويطلب ويلح في الطلب عبر (وادي المعرفة)، حتى يصل إلى وادي الرحابة والسِّعة؛ فيعرف لذة الفناء عبر (وادي الاستغناء). وهنا نجد الشهاوي، وإن تفوق في وصف محبوبته على كثير من الكتابات في العشق، لكنه اتبع في روايته – ظاهراتيًّا – ذلك المنهج الذي ينتهي بالأليفين إلى لذة الفناء. فلا نسشعر غصة ابتعاد العاشق عن معشوقه؛ إذْ تذهب شمس عن عمر في نهاية الرواية طالبة إليه أن يحبها أكثر، أو ينساها أكثر، فتخبره قائلة:
( سأطلب أن تحبني أكثر، أو تنساني أكثر، لا أعرف، لم أعد أعرف. ثم مشت شمس نحو سيارتها، وسمعتها تقول: ” إذا أحببت أحدًا فأخبره ليعلم، وكرِّرها ليطمئن يا عمر يا عمر”).

فهذا السرد الذي يمتاز بالعرفانية والثراء الشديدين، تتفتح بتلالته الواحدة تلو الأخرى؛ ليأخذنا عمر بصحبة شمسه، فنعبر بوابات العوالم الخفية بما فيها من غموض عبر الديانات، والرموز المصرية القديمة ودلالاتها، أو حضارات لبلاد أمريكا اللاتينية، وذلك عبر المد الزمني الذي امتاز بالحرفية الشديدة، وسلاسة انتقال الأحداث فيما بين زمنين أو أكثر؛ فلا نشعر معه بغياب جانب الزمن الدينامي عن الأحداث على طول الخط السردي.

كما يعد التوظيف لضمير المتكلم خلال السرد والذي يبرز الأنا من خلال أوتوبيوجرافي – سيرة ذاتية – في أوضح الصور، ولكن مع هذا لا يمكننا بحال اعتباره بمثابة ارتداد أو عودة إلى مسالك الرواي العليم أو حتى أدب التراجم بشكله المتعارف عليه؛ لأن الكاتب كان يعلن عن تدخله في الأحداث بصورةٍ غير مباشرة، فيعلق ويبين ويتفاعل ويتشابك، ولذا فإن وجدنا “من يعتبر هذا الضرب الروائي خروجًا على الأعراف والتقاليد السردية والتخيليية، وهناك أيضًا من ينظر إليه بوصفه مقالة أدبية”، لكن في هذه الرواية، استطاع الشهاوي باقتدار وذكاء النأي بنصه عن جمود التوصيف؛ ليقدم كتابة مختلفة. فكان تدخله محسوبًا بدقة وتوازن.
ولكي نتعرف إلى سياق ثان في التلقي، يمكننا القراءة وفق معاييره، فينبغي لنا أن نتعرف أكثر إلى “شمس حمدي”، ترى من تكون هذه المرة؟
شمس وهي المرأة الجميلة فائقة الأنوثة التي يسقط الجميع في لجج عشقها، رغم وصفها في موضع آخر بأنها غلامية؟
(تقول عن نفسها إنها غلامية، وإنها تمنت أن تكون رجلًا؛ لأن أباها لم ينجب إلا البنات، وهي الكبرى، فأرادت أن تعوضه حرمان إنجاب الولد، وتلعب دور الرجل في حياته، بمعنى أن تسانده في كل ما تراه مطلوبًا من دون أن ينطق به الوالد)
فهل شمس هي الجانب الأنثوي الهادىء الشفيف في حياة رجلها أم العكس، وهل هو الكامن في أعماقها وفق نظرية “يونج” بحيث امتزجا معًا حتى التوحد.

نحن وإن كنا نقر أن الرواية هي التفسير للحياة الإنسانية من خلال سرد نثري طبقًا “لارنست بيكر” لكننا من جانب آخر لا يمكننا اعتبار الرواية – بوجه عام- بمثابة وثيقة سيكولوجية؛ لنقوم بلي ذراع الفكرة أو اصطناع التأويل السيكولوجي لتمرير قناعة المؤلف، كما أنه ليس شرطًا أن تكون عاطفة الكاتب هي ذاتها عاطفة شخوص روايته، لكن الشهاوي كان قادرًا على تصور العاطفة التي أودعها نفوس أبطاله؛ حيث تفاعل معها في صدق، فأجاد في إبداعه من خلال إعطاء النص الوقت اللازم من خلال الاستقرار والاختمار والإشراف وأخيرًا التنفيذ؛ ولذا تمكنا في يسر من قبول المغزى من وراء ذلك السياق ووصف عمر لنفسه باللين والحنو وخلع بعض صفات الذكورة على شمس، وقد تم طرح ذلك السياق في ضمنية لا تتسم بالغموض؛ حيث لا يجد القارىء في فهمها – بشيء من تفكير- صعوبة أو التباس.

أما عن السياق الثالث – والذي نميل إليه بشدة – أن شمس ما هي إلا روح الشهاوي، هي ذاته أو نفسه التي بين جنبيه، والتي يحاول حمايتها من الدنس ويدللها ويحاول النأي بها عن الكذب والشر والغواية:
( لكن شمس التي أحب لا يمكن لي أن أتركها هكذا ضائعة في الطريق تائهة في الدنيا التي ضاقت عليها.

هي مقدسة عندي، ولم أدنسها يومًا، وعليك أن تجتاز معي سطرًا بسطر، وليس فصلًا بفصل، كي تشاركني الكتابة والخروج….)
كما يتضح ذلك أيضًا من الجزء الثاني من الإهداء، وهو نصيحة يوجِّهها الشهاوي إلى ابنه أحمد حيث يكتب :
إلى أحمد ابني
(ضع بنفسجةً على قبري كُلَّما طلعت شمسٌ، وستأتيك الشمسُ كعادتها معك)
وفي مخاتلة ذكية نجد العبارة ذاتها تتكرر على لسان شمس إذ تقول لعمر:
( قالت لي أمس: ضع بنفسجةً على قبري كلما طلعت شمسٌ)
فشمس بمثابة الروح التي تخاطب جانبها الجسداني الحسي، ويمثله عمر. كما يعود الكاتب ويخاطب روحه المتمثلة في امتداده البيولوجي.
وأما عن الوصف لطبيعة العلاقة الجسدية بين شمس وعمر، فإن الكاتب يؤكد به ذلك التوحد والالتصاق غير القابل للفصل فيما بينهما ولا ينفيه؛ وإلا كيف لنا أن نتعاطف مع امرأةٍ خاطئةٍ خائنة؟ وكيف يلتصق ما سبق وإن كان منفصلًا، بغير تحريم؟

وعن استخدام الدلالات الأخرى – وما أكثرها – لنبرهن على ذلك، فقد فقدت شمس رحمها، وهو دليل الخصوبة والأنوثة؛ إلا أنها تؤكد المنح والعطاء، في إسقاط إلى أن النفس مهما تلوثت فإنها لا تفقد المغفرة ووفق فهم العدالة الإلهية من حيث الثواب والعقاب، “فالباقلاني” وفق رؤيته يرفض أن تكون الطاعة علة الثواب أو المعصية علة للعقاب، فشمس وإن ذكرت بعض الأخطاء لها؛ إلا أن علاقتها بعمر ظلت بمنأى عن ذلك ولم تشر إليه من قريب أو بعيد.

ثالثًا: دلالة اختيار الأسماء،

اختيرت الأسماء بعناية فائقة، فشمس هي النور والحقيقة والإبصار.
عمر الحديدي، اشتقاق عمر من لفظ العمر أو سن يمنح دلالة على محدودية الحياة على الأرض، مهما بلغ بأسها وإن أنزلت من حديد.
غازي الشحات ، وهو الشر والدنس الدخيل على النفس المطمئنة الذي يحاول أن يفقدها سلامها، ولا يحمل في جعبته غير الجدب (الشحات).
محمد الديب، رجل الدين غير الأمين على وديعته من كتاب الله، فيحاول في مكر الشراء “بآيات الله ثمنًا قليلًا” عن طريق تعليم عمر أمور السحر وألاعيبه.

وبقي أن نشير إلى عناوين الفصول المختارة بحس شفيف، وسنترك للقارىء اكتشافها عند القراءة لعمل يقدم كتابة تتناول عوالم خفية بأسلوب احترافي، يجعلك تقرأ مرة بعد مرة لاكتشاف الجديد من وراء “حجاب الساحر”.

هوامش:

* المعجم العربي الجامع.
** ” يوسف وزليخا- رؤية صوفية” عبد الرحمن الجامي، ترجمة عائشة عفة زكريا، دار المنهل للطباعة والنشر- دمشق. رقم إيداع بتاريخ، ١ من يوليو ٢٠٠٣
*’ سفر نشيد الإنشاد النص التوراتي ( العهد القديم) حيث كان التغزل الحسي في وصف المحبوبة يشير إلى النفس البشرية.. وفق تفاسير النصوص التوراتية.
*” منطق الطير. فريد الدين العطار، ترجمة وتقديم، د. بديع محمد جمعة. آفاق للنشر والتوزيع. ط.أ. ٢٠١٥ ، ص ٧٤: ٧٥
‘*يصل الباقلاني في فهم العدالة الإلهية من حيث الثواب والعقاب إلى نفي أن تكون الطاعة علة الثواب أو المعصية علة للعقاب، على العكس من منطق المعتزلة الذين يربط بعضهم بين الجزاء والعمل.
“* كارل چوستاف يونج مؤسس علم النفس التحليلي( ١٨٧٥: ١٩٦١)
– في الإبداع العربي المعاصر، د. مفيدة إبراهيم علي عبد الخالق، الدار السعودية للنشر والتوزيع. ط. أ. ٢٠٠٥
– قراءة النص دراسة في الموروث النقدي، أ.د. أحمد يوسف علي ، مكتبة الآداب، ط.ثانية ٢٠٠٨
– تاريخ الأدب العربي كارل بروكلمان. ترجمة د. عبد الحليم النجار، دار المعارف ط. خامسة ١٩٩١.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!