لآفاق حرة
*- وداعاً.. عبد الفتاح قلعجي.
“الطليعيّة والتجريب.. في مسرح عبد الفتاح قلعه جي”.
#نجم_الدين_سمّان.
بينما كان المسرح السياسيّ المُتأثر بالمدرسة البريختية، سائداً بعد هزيمة حزيران وطوال عقدي السبعينيات والثمانينيات؛ كان قلعجي يأخـذ مساراً أطلق عليه مصطلح “المسـرح الطليعـي”.
وتلـك التسمية.. لا سيما في مهرجانات الهواة المسرحية في سورية، أثـارت نقاشـات لاهبة بعد كلّ عرضٍ.. كانت فرقة هواة إدلب تُقدمه عن نصٍّ للقلعه جي تلوَ نصّ، حتى لكأنها اختصت بنصوصه بإخراج: أحمد مروان فنري. في الوقت الذي كانت فرق حلب المسرحية هاوية ومحترفة، تتحاشاها.
مفارقتان اندمجتا في ذاكرتي عن تجربة القلعه جي، وعاصرتها منذ مسرحياته الأولى: “غابة غـار؛ طفـل زائـد عـن الحاجة؛ 3 صرخات؛ اللحاد” وفي مسرحياته الأخيرة: “عرس حلبـي – هبـوط تيمورلنك ـ اختفاء وسقوط شهريار ـ باب الفرج” مروراً بمسرحيتيه: “الشاطر حسن ـ الملوك يصبون القهوة” وليس انتهاءً بـ “فانتازيا الجنون” التي اعتبرها إرهاصاً بمرحلة جديدة في مسيرة القلعه جي المديدة في الكتابة المسرحية.
*- “الطليعيّة”.. إشكالیة التسمیة
بسببٍ من تركيبها اللغـويّ مجـازاً ودلالـة وكأنها افتراق عمّأ قبلها؛ بينما الطليعية سيرورة في الفنّ والحياة.. بهذا المعنى، يكـون مسـرح “هـوميروس” طليعياً، كما كلّ انعطافٍ مسرحيّ يُشكل تجاوزاً جديداً.
هكذا حالُ مصطلح “المسرح التجريبيّ” أيضاً، لأنّ التجريبَ سِـمَةُ إنسـانية.. لولاها ما تقدمت البشرية فكراً وفناً وعلوماً؛ وبهذا المعنى.. يكون أبو خليل القباني تجريبياً، كما.. الطيب العلج، كما.. محمود دياب، وكما.. سـعد االله ونوس.. الخ، لأنّ العمر الزمني القصير للمسرح في عالمنا العربـي قياساً للمسرح العالمي في شرقه أو غربه، لم يُمَكِن مسرحنا من إرساءِ نموذجِـهِ، أو مدارسه، أو صوته الخاص، وأنا أعتبر المسرح العربي منذ بواكيره الأولى، التي لا تتعدى مُنتصفَ القرن التاسع عشر، وحتى راهننا، لا يزال في مرحلـة التجريب، وفي مرحلة البحث عن هُويّته وصوته وفضائه، لا سيما بعد انقطاعه عن الطقوس المسرحية الأولى، انقطاعَ تاريخٍ مديدٍ وانقطاع بُنيةٍ معرفيـّة؛ ومـا بـين فجر التاريخ في سورية ومصر وبلاد الرافدين وبين بواكير النهضـة العربيـة الحديثة.
يُعزِزُ هذا الانقطاع أن مسرحنا العربيّ قد تمثل النموذج الغربيّ الأوروبيّ في المسرح، ولا يزال يتمثلُ تجارِبَهُ ومدارِسَه، برغم المُحاولات الجادة لتأصيله باستلهام التراث، لا سيما ما تبقى من طقوسه المسرحية الشفويّة المتواترة، ومن الخصوصية الحكائية، ومن أشكال الفُرجَة الشعبية، أو ما تبقى منها.. قبل اندثارها الوشيك.
ولهذا.. سأتحفظ علـى مصطلح “المسـرح الطليعي” في مسرح القلعه جي، وفي ظنّي أن مسرحه ينقسـم إلى ثلاث مراحل، في سياق بحثه التجريبي عن تأصيل المسـرح فـي حياتنـا العربية المعاصرة، ومن خلال رؤيته الخاصة وبحثه الدؤوب.
*- “الطلیعیّة”.. مُلتبِسَةً بالوجودیّة وبمسرح العبَث
تلعب سيرورة الشخص دوراً هاماً في تحولاته، وتلقي بظلالها على أفعاله، ومنها فعله الإبداعي، هكذا أرى الأمر بعيداً عن مدارس الحداثة الغربيـة التـي قالت بموت المؤلف في نصّه، ثمّ طالت النصّ نفسه بالتفكيك.. إقصاءً للمعنى.
لهذا اعتبرُ مسرحيةَ القلعه جي: “غابة غار” جسراً بين الشاعر الذي فيه، وبين المسرحيّ الذي يطمح أن يكونه، لا سيما لجهة اللغة الشعرية التي كانـت مِحرَقَ جُملته المسرحيّة، طاغيةً على ما عداها من خصوصية اللغة المسـرحية ومنطوقها.. لا سيما في “غابة غار”.
ثمّ توارت في النصوص اللاحقة لصالح الدراما، وإن لم تختَـفِ نماماً ظلالها، ثمّ هناك التجريد، والحدثُ المُجـرّد، والأفكـار المُجـرَدة التـي يفترضها الشعر بخصوصيته بين الأجناس الأدبية..
وفي الشعرِ.. يطغـى صـوتُ الأنا في مواجهة عالم خارجي مُعادٍ لها.. غالباً، بينما يفترض المسرحُ.. تعدُدَ الأصوات حتّى داخلِ الصوت الواحد.. وحتى في “المونو دراما”
حمل القلعه جي من الشعر لغةً عالِمَةً وذاتاً يائسـةً من أيّ تغييرٍ لصالح المُتسامي في البشر، كما حمل أسئلةً.. ذاتِ ظلال وجوديّـة، وتشاؤماً ذا ظلالٍ نيتشويّة، وعبثاً.. إزاء كلّ صيرورةٍ دنيوية لا تتخطـى دُنياهـا إلى اليقينِ السرمديّ؛ وكلُّ هذا على أرضيةٍ مِن نشأةٍ دينيّةٍ.. في فضـاء الحـارة الشعبية الحلبيّة، قريباً.. من قلعتها؛ ومن مزارات المتصوفة والتكايا والأذكار.
الصِبغة التشاؤمية في نصوص مرحلته الأولى.. عززتهـا هزيمة حزيران حتى لكأنها صرخة إنسانية.. لا خلاصَ فيها؛ ولا أمل.
أمّا فضـاءاتُ نصـوصِ تلـكَ المرحلة فمُغلقة على نفسها وحول نفسها.. مثل “الكهف” في مسرحيته “طفل زائد عن الحاجة” حيث يدور حوار الزوج وزوجته حول اللايقين، بعد انقطاع أيّ اتصالٍ لهما مع العـالم الخـارجي، في حين ينتظران طفلاً.. لن يولد، رغم كلّ سِماتِ الحَمل، بل إنه الطفـلُ الزائـد عن الحاجة، وفي الدلالة.. يصير الوجود الإنسانيُّ نفسُهُ زائداً عن أيّ حاجةٍ فـي زمانٍ مُهشَمٍ وعقيمٍ وقابلٍ للفساد كالمشيمة ذاتها.. هل هـذه إحالـة إلـى أمّـةُّ قد هُزمت ؟!.
مُحصلةُ مِثلِ هذهِ الصيرورة.. أن يتحوّل الزوجان في نهايـة الـنص إلـى تمثالَيّ “مانيكان” وهما يتشيآن بعد اغتراب دواخلهما بالتعارض مع كلّ خارجيٍّ فاسدٍ ومهزوم.
في نصّه “اللحَّاد” تغوص مدينةٌ في باطن الأرض ـ أي: إلى مكانٍ مُغلـق ـ لا يتبقى منها سوى المقبرة ـ والمقبرة فضاءُ مُغلق على أمواتها.. ايضاً ـ ولم يبق من المدينة الغائرة في باطن الأرض.. سوى لّحّادِهَـا فـي مواجهة رسامٍ يُعلّق لوحاته على شواهد القبـور؛ رسـومُهُ غامضـةُ، قاتِمَـةُ الألوان، ضبابيّة.
وبعد حواراتٍ ذِهنيّةٍ مُستفيضةٍ بينهما.. عن الجدوى وعن اليقين؛ يتمـدد الرسام طواعية في قبر، والقبر.. رَحِمٌ مُغلق، ليبقى اللحّاد سّيدَ مكانِـه وزمانـِه؛ فهذا عصرٌ لا يحتاج لغيرِ اللحّادين.
لا أظن أن القلعه جي قد غادرَ هذه الأجواءَ نهائياً.. في نصوصه اللاحقـة، فها هو في نصٍّ طازجٍ لـه بعنوان “فانتازيا الجنون” يُعِيدُ إنتاجَ الفضاءِ المُغلق من جديد، حيـث المكانُ هاهنا: مسرح مهجور؛ مُغلق؛ وفي طرف المدينة، وهـاك.. بالطبعِ: بضعة قبـور، امّا الزوج وزوجته في مسرحية سابقة له: طفل زائد عن الحاجة”.. فينزاحان ليصيرا المُهرِّج وزوجته، أمّا اللحّاد في نص سابق له.. فيصير جنرالاً أوحد يتحكم بمصائر الشعوب، والنقلة التي توخاها القلعه جي ها هنا هي مزجُ الذاتيّ الحائر حول جدوى وجودِه، بـالكونيّ المُلتاثِ بفوضاه المُنظمة.ز تحت رداء العولمة.
كأنما القلعه جي قد استنفذ مدارات مرحلتـه الأولـى “الطليعيـة” أو.. أنهـا استنفذته بذهنيتها المُكثفة التي تُخاطب نُخبةً عَالِمَةً دون الجمهور الواسـع.
*- مـن مسرح النُخبَة إلى مسرح الفُرجَة
ثم توخى القلعه جـي رؤيـة مقاعـد المسـرح مُحتشدة بجمهور عام، ها هنا ينفتح الفضاء المُغلق من كهف ومقبـرة وبرميـل زبالة إلى خشبةٍ قابلة لكلّ احتمال بصريٍّ / سَمعيٍّ.. باستلهام الحكاية التراثيـة..
كمـا فـي نصّة “اختفاء وسقوط شهريار”، باستلهام التاريخ أسئلةً في الراهن كمـا فـي نصّه: “هبـوط تيمورلنك”.
أو باستلهام أنماط العيش لدى الناس أفراحاً وتقاليد كما فـي نصّه: “عـرس حلبي” حيث تنضفر عناصر الحكاية التراثية والشعبية بتجلياتها البصريّة: في “خيال الظلّ وصندوق الفرجة” كما ينضفرُ الراوي.. بملامح الحكواتي الشعبية؛ وبالشاهد على حدث يجري الآن.. وعلـى تواريخ مضت، ويتمّ تطويع اللغة المسرحية لصالح تعدّد الأصوات في النص تخففاً من اللغة الشعرية المُجرَدَة، ويتخذ الحدث الدراميّ تجليـاتٍ ملموسـة تخففـاً مـن الذهنيّة.. وبالطبع، لا تختفي سِماتُ المرحلة الأولى كُليّةً لكنها تتوارى قليلاً أو كثيراً.. لصالح اختلاف الخطاب واختلاف توجهه.
يُصبح هاهنا سؤالُ التاريخ في الراهن، وسؤال الراهن عـن التاريخ: هاجسـاً أساساً في المرحلة الثانيّة من مسيرة القلعه جي.. الطويلة، لكنّ ذلك يستدعي لغـةَ خطـابٍ مُباشرة كما في نصّه “الملوك يصبّون القهوة”، حتى كأنـه درس فـي التـاريخ، رغم الاقتراحات البصريّة يتوخاها فضـاءً للمسـرح الشـامل: حواريات وحكايات وخيال ظلٍ وصندوق فرجة، مادة حلم؛ وقائع ملموسة، لغـات إخبار وتعبير؛ وشعرية نازفة، بعضها.. يتلمَسُ بُنية اللغة التراثية صرفاً وبعضـها يتلمس المنطوق الشعبي للشخصيات؛ هناك أيضاً الشـعر الفصـيح؛ والشـعر الشعبي: زجلاً ومواويل وأغنيات وعِديّات.
وكلّ ذلك يختلط في محاولة تجريبية لتجسيد مُعادلة صعبة.. يُـراهن عليها القلعه جي.. بإصرار؛ وهذا الرهان على الفُرجة المسرحية الشاملة يأخذ القلعه جي.. إلى صراطٍ رهيفٍ يفصل ما بين مسرحيّة المسرح.. وما بين تهافته في الشعبية.
كثيراً ما تتردد كلمة “الصراط” مُفردة ومفهوماً في نصوصه.. من حيث أرى نص “الشاطر حسن” صراطاً اجتازه القلعه جـي بكثيرٍ من المُراهنة على إقصاء المسرح التجاري جانباً.. ربمـا بـبعض أدواتـه وتوابله نفسها؛ وربما لأنّ الواقع المسرحي المُنحَسِر عالمياً ومحليـاً، هـو الـذي أعطى لذاك الرهان مُسَوِغَه، فكاد الرهانُ ذاتًه ينزلق نحو دَغدغة جمهور الشـبّاك.. الجمهور؛ والذي لم يستطع أن يرتقي به المسرح الطليعي أو المسـرح التجريبـي فاستقطبته على الدوام الفرق التهريجية التجارية.
أمّا مسرحيته: “الشاطر حسن” فتكاد تكون نافلةً في تلك التجربة الطويلة، بينما أرى نـصّ “عُرس حلبي” تجسيداً لصورة ما توخّاه القلعه جي.. للمسرح المفتـوح، مسـرح الفُرجة، المسرح الشعبيّ، المسرح الشامل.. مهما اختلفت مفاتيحُ التسمية.
كأنما القلعه جي قد استنفذ مدارات مرحلتـه الأولـى “الطليعيـة” أو.. أنهـا استنفذته بذهنيتها المُكثفة التي تُخاطب نُخبةً عَالِمَةً دون الجمهور الواسـع.
مـن مسرح النُخبة إلى مسرح الفُرجة
يتوخى القلعه جـي رؤيـة مقاعـد المسـرح محتشدة بجمهور عام، ها هنا ينفتح الفضاء المغلق من كهف ومقبـرة وبرميـل زبالة إلى خشبة قابلة لكلّ احتمال بصري باستلهام الحكاية التراثيـة..
ثمّة نص مسرحي جديد بين يدي، يرهص بمرحلة ثالثة في سياق تجربـة القلعه جي وتجريبيته.. “فانتازيا الجنون” نص يزاوج ما بين المرحلتين السابقتين ليستخلص معادلة صعبة طالما توخاها المسرح العربي بحثاً عن هويته.. هكـذا، يضاف عبد الفتاح قلعه جي إلى قائمة الكتّاب العرب المسـرحيين الـذين كـان التأصيل في جذر إبداعهم والتجريب في فضاء ما يحلمون به تجسيراً لعلاقة مع جمهور ينحسر.. بل إنه الجمهور الغائب، المُغيّب، وإنها المسارح المهجـورة، المنذورة للعتمة وللغياب على نُدرتها من الماء إلى الماء.
ينحسر المسرح عن حياتنا وتتكاثر المهرجانات، ينسرب المسرحيون مـن فضاء المسرح المفتوح إلى زوبعة الألوان في شاشات التلفاز، يـتقلص الكتـاب المشتغلون على نصوص المسرح، حتى إن جمعية المسرح في اتحـاد الكتاب، تضم أقلَّ عددٍ بين الجمعيات الأخرى.. وربما في هذا دليلُ عافيـة مـن جهة ثانية، لأن تكاثر الأعداد استنساخاً يُحيلني إلى نصٍ للقلعـه جـي عنوانـه “صناعة الأعداد” في مُفارقة ساخرة وأليمة ومتشائلة في آن معاً.