رسائل لا تحتاج لطوابع أو ساعي بريد . (2)/ بقلم : عاطف معاوية  ( المغرب )

سلام عليك و على هذا الصباح .

استيقظت باكرا اليوم لأكتب لك ، قرأت البارحة رسالتكِ

و لكنني لم أبكِ كما فعلت أنتِ ، بكيتِ كثيرا ، لازال أثر الدمع واضحا على الرسالة ، على حروف الغياب و فعل البكاء ،

كيف هي يدكِ الآن ، لقد ارتجف قلبي كثيرا ، كاد أن يتوقف ، كيف هي يدكِ ؟

حين وصلت رسالتك البارحة كنت في العمل، لم أكن مستعدا لقرائتها ، كنت في حاجة للهدوء و الصمت و لفنجان قهوة تعدل مزاجي المتعكر ، قرأتها حينما دخلت غرفتي .

صباح آخر ، أفتقدكِ فيه ، برد خفيف و صمت طويل ، ديك وحيد يمارس عاداته القديمة في “الآذان” هكذا يسمونها هنا ، يؤذن ليوم جديد . لقد أصبحتُ نحيفا شيئا ما ، هذه الأيام تشبه الحرب ، أعمل كل النهار وأضع كمامة على فمي طول الوقت  بعدما أفرج عنا، نتشابه مع أهل الكهف إلا نحن بلا كلب يحرسنا أو نحرسه .

وحدي الآن أكتب لك هذه الرسالة ،وحدي المبلل بالحنين ، ووحدي أجوب ذكرياتنا في شوارع فارغة في صباح شتوي ، في مقهى يطل على بحر يغازل سرابه ، لونه يغازل الشمس، تلك أيامنا التي تركت فينا حنينها ، تركت فينا بندقية و يدا مقطوعة مجهولة .

كنت دائما أحاول أن أخلد ضحكتك الطويلة و تلك الأيام الجميلة ، هل الغمازات لازالت في مكانهما ؟ واسعتين دائمتينِ . أحبكِ وأنت تضحكين ضحكتك الأليفة التي تُعمِّق الحب في الشرايين الضيقة ، وتُنظم الدورة الدموية وتُقلل تخثر الدم .

مررت البارحة على البحر ، لا زال مقعد الظهيرة ينتظرك ، ينتظر غدنا و صباحا للأغاني، مررت بجانب الكنيسة وبكيتُ على سقف أحلامنا ، و موسيقى كانت تحمل معنا طريق البريد و رسالة حب سقطت من ساعي البريد ، خطأ أن يموت الحب بسبب نسيان و سقوط . خطأ أن يموت !

لقد بحثت طويلا عن أحاديثنا الطويلة و حروفها الأولى، بحثت عن أحلامنا و حكاياتنا القديمة و الجديدة .

في وسع الحنين أن يقودني إليك كلما حاولت الهروب من السجن ، سجن طاولة قصيرة عليها شمعتين و ورد و غناء ، عليها يدك و يدي اليمنى و فنجان قهوة و كأس ماء .

أتذكر شفتاك الناشفتان من الماء و العرق ، أحس بآلام الحب كلما حاولت النوم و العيش ، كلما تذوقت الملح و التقيت البحر وجها لوجه ، حاولت النسيان ، حاولت الانتحار !

و لكنني أعود إلى مقهى الشيخ ، لأرشف قهوتي ببطئ

و لأعيد الهواء إلى رئتاي و يعود قلبي مجازا إليّ.

مضيئٌ هو هذا الصباح الجميل، أسمع صوت الراديو ؛ أخبار موت و إصابات جديدة بفيروس كورونا ، لازال ذلك الوحش ينتقل بسرعة .

مهما تعبت ألجأ للبحر الذي يفصلنا ، لبحر جمعنا قديما لأيام عديدة طويلة ، ألجأ إليه لعلني أعثر فيه عن ذاتي، عن ذات أخرى تنقذني .

هل تعلمين أن “ميسم” تشبه زهرة الغاردينيا ،

تفتحت و فتحت على الحياة سحرها القديم برائحتها ونقائها، أنيقة هي ضحكتها الأولى و تلك العيون ، آه من عيونها لامعة ناصعة بيضاء ، بيضاء كفجر في خطواته الأولى ، تتفتح بلا صخب ، تجيء خفيفة الظل .تصنعُ من اللاشيء ، من اللاوجود وجودا للروح ، تمشي بحذر فوق أغصان طفولتها ؛ طفولتنا .

ببساطة بالغة “ميسم” دليلة الورد والياسمين في بساتيننا ، ميسم لذة النصر في انهزامنا المسبق .

لم أخبرك أننا ثلاثة نشترك في برج واحد هو “الجدي”، وماذا سيحمل لنا بعد هذا الحصار و الغياب من أخبار ؟

 

لا تصدقيني حينما أقول أنني بخير ! طالما أن الغياب أطول من طريقنا ، من أيامنا ، فلا يحق لنا أن نُخبأ و أن نُكذب الكلمات و الدموع اليابسة على الخدين ، للغياب حق الكلام

و لنا حنين الشجر للريح وللربيع ، لنا لقاء تحت شجرة الصفصاف حيث كان يسكنها العطش الذي لا يُروى، يمتص دمها و حبنا ، لنا لقاء على أغنية العيد في أنفسنا ، في قصائد و في وصف العائد إلى أهله ، متى ستعودين ؟ متى سأعانق قلبكِ و قلبي ؟ صوتكِ وصورة السنين الأولى ، متى أمتلك حقين في وطنين و حب أعيد تركيبه في أغانينا ؟ في عناقنا في اسمك واسمي ؟

سأحفر اسمك على الحياة ، على ليالٍ قضيناها مرتدين الحب في ثوبه الأول ، في أشعار محمود درويش الأولى و أنت تقرأين لي يطير الحمام يحط الحمام :

” يطيرُ الحمامُ

يحطّ الحمامُ

أعدّي لي الأرض كي أستريح

فإني أحبّك حتى التعب

صباحك فاكهةٌ للأغاني

وهذا المساء ذهب

ونحن لنا حين يدخل ظلٌّ إلى ظلّه فى الرخام

وأشبه نفسي حين أعلّق نفسي على عنقٍ

لا تعانق غير الغمام

وأنت الهواء الذى يتعرّى أمامي كدمع العنب

وأنت بداية عائلة الموج حين تشبّث بالبرّ حين اغترب

وإني أحبّك ، أنت بداية روحي، وأنت الختام

يطير الحمام

يحطّ الحمام … “(1)*

و نحن لنا مراسيم الغرام في حديقتنا وفي سمائنا ، و الحمام الأبيض من يطعمه قمحا ؟ من يضمد جرحه في نسيانه طريق عودته ؟

يطير الحمام و يحط الحنين و إنني أحبكِ من أول البحر إلى آخره .

مثلك سأنهي رسالتي ما دام ساعي البريد لن يحملها في حقيبته ، أقول لك تعبت من تعب التعب، تعبت من خوف

و حقائب ترتدي ذاكرتي و تسافر ، أين المحطات ؟

أين المطارات؟ أين أنتِ من كل هذا الحزن و الغياب…

أين الطريق يا حبيبتي؟

********

(1)* : مقطع من قصيدة “يطير الحمام” للشاعر محمود درويش .

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!