أتأملُنا طويلًا؛ هل أستطيع إبقاء مشاعرنا بهذا العمق، وهذا الشغف؟ هل بإمكاني الإمساك بتلابيب السعادة التي عرفناها معًا، وزجها في سجن الأبدية، حتى لا تعرف للهرب طريقًا؟
اعذروا قلقي، ولا تلوموا تطرّفي، فلو علمتم كم مرة هربت السعادة من بين يدي؟ كم مرة غافلتني وانسلّت من أبواب قلبي، فتركت لي الخواء ينهش أضلعي.
لا لن أسمح بهذا، وكيف أسمح وكنت قد اخترعت أجمل المصادفات لألتقيه، واخترت أكثر الأماكن رومانسية لاعترافه الأول، وأعذب اللحظات لميلاد كلمة (أحبكِ).
سكبت مداد قلبي حتى أينعت الكلمات وأزهرت الأرض مواسم حب لا تنتهي.
أشرقتُ شموسًا وأهطلتُ أمطارًا لمواعيدنا،
وشققتُ أنهارًا على جسورها كنا نلتقي.
كنت مندفعة، وكان كذلك، فالحب إن لم يكن شرارة فلا يمكن أن يصير حريقًا.
وأجمل حرائق الحب تلك التي تلتهمك وتظل تشتعل فيك طالبة هل من مزيد. وأسوأها التي تنطفئ وتبقي جمر الشوق يأكل نفسه تحت رماد الفراق.
هل قلتُ فراق؟
يا لها من كلمة لعينة مخاتلة، كيف تسلّلت إلى قلمي واستقرت على بياض ورقتي؟
لقد ظلّت تلاحقني كلعنة، وكنت قد أقسمت ألا أسمح لها بدخول قاموسي، تحصّنتُ منها بكل حروز جدتي، ودعوت الله في صلاتي ألّا يجمع شمل حروفها في دفتري.
لا أعرف كيف استدرجتني لتخرج مني، مدليّة لسانها، ساخرة.
كنت قد احتملت ألمها طويلَا في داخلي، وكلما حاولتُ محو آثارها من قلبي ازدادت إلحاحًا على ذاكرتي، فربطت لسان قلمي، وحرّمتها على أحرفي. كنت دائمًا متيقظة لها، ومحترزة لكل حركة غدر قد تصدر منها.
أما الآن وقد خرجت كبومة على شجرة كلماتي، فأني أظنها نذير شؤم، وعليّ أن أبدأ في تقبل الواقع.
ولكن هل يمكن أن أتقبّل الهزيمة بهذه البساطة؟
ألم آخذ كل احتياطاتي خوفًا من هذه اللحظة؟ ألم أجعل من حكايتنا أسطورة، ومن قصتنا مضربًا للمثل، ألم يحسدنا الجميع على هذا الحب.
آه الحسد!
كيف لم أنتبه لهذا؟
هل بالغت في تصوير شغفنا ببعضنا؟
تُرى هل كانت مجرد كلمات؟
ألم ينبض قلبي حقًا كلما التقيته في سطر؟ ألم أذب في كلماته؟ ألم أحبه بكل ما أوتيت من إحساس و قدرة على التعبير؟
وهو؟ ألم يفض حبه، حتى أغرق أرضي وسمائي، ألم يزرع الورد في الطرقات لأجلي، ويعد نجومًا في انتظار لقائي، ألم يضحك لي كقدَر؟ ويبكِ أمامي كطفل؟
ألم يركع عند قلمي لنبقى معًا؛ أحبّة إلى أبد الآبدين؟
فلمَ كل هذا الخوف وهذا التشاؤم؟ ألستُ الآمرة الناهية، ألستُ المتحكمة في الجميع هنا؟!
أتراني غير واثقة من تمرد كائناتي، أو أنني حقًا لستُ قادرة على الاحتفاظ بالسعادة وخلق حب حقيقي؟
أعترف أن كل الأحبة الذين اختلقتهم في نصوصي ما فتئوا أن غادروني، ووسموا قلبي بنار الغياب.
كيف طاوعتُهم وطاوعهم قلبي قبل قلمي، ومهد لهم طريق الرحيل، وأغلق الباب خلفهم دون كلمة عتاب أو تلويحة وداع.
كيف سمحتُ لهم أن يتسربوا من قلبي، ومن سطوري، كيف تواطأت معهم؟
هل أتقنُ أنا خلق البدايات الجميلة وأعجز عن صنع النهايات السعيدة.
ربما كانوا مجرد عابرين.
ألم يكونوا من ورق؟
والآن ما الذي تغير؟
أليس عابرًا ككل العابرين؟
لا… ليس عابرًا، لم يكن يومًا كذلك، ولن يكون.
سأقاتل لأجلي وأجله؛ سأطمسُ كل كلمة تقف دون سعادتنا، وأنشبُ أظافري في كل فكرة تحول بيننا، وسأغرسُ قلمي عميقًا في صدر الفراق.
سأكتبه كما أشتهي، وسأحتفظ به حبًا أبديًا إلى آخر النص.