ذاكرة هاجرة / بقلم : سلام شربجي / سورية

هنا..الآن..

هنا عما قليل سيحل عيد ثقيل الظل، لايحمل من صفاته سوى اسمه..
منذ زمن قصير غادرت المرأة طبيعتها المنفتحة نحو ماصنعته من عزلة، تأوي إليها بعيدا عما يحيط بها من زحمة أقارب وأصدقاء، بينهم ومعهم كانت تستمد مزيدا من الطاقة والتألق..
مامن شك بأن ماسيحمله هذا العيد من طقوس اجتماعية مكثفة، وكرنفالية مفروضة سيضفي نحو خيارها الجديد، ومزاجيتها الخاصة أعباء أخرى تفوق قدرتها على التحمل والانصياع، وتستوجب مزيدا من الحسم والممانعة حيال فرح زائف تدرك أنه لايأتي من زمن أو وطن، بل من تفاعل بين مكوناتها الحسية والوجدانية، ومايحيط بها من مكونات متعددة.
هاهي تشرع بفرض املاءاتها الجديدة، عبر قرار حر ستفرض من خلاله شروطها بشرعية مطلقة :
لن تقوم بإضفاء أية لمسات جديدة نحو أثاث أبله كسيح كي تحوله إلى متحف يؤمه الزائرون، وسيغيب عن هذا العيد أحد أهم طقوسه مع غياب رغبتها في إعداد حلوياتها المميزة، سكتفي بإحضار أصناف من حلوى صنعها الغرباء..
كما سيغيب عن هذا العيد طقس زينتها، وسيخيم الظلام نحو مرآتها، وتغادر قوارير عطرها لمساتها الدافئة..
لن تراودها رغبة بالانصياع لما سيفرضه هذا القادم من بروتوكولية مصطنعة من تودد، او زيارة، أو حتى مهاتفة،ولن تتفقد من سيتخلفون عن زيارتها ربما من عزلة تشابه عزلتها..
هل ستتمكن تلك المرأة من استكمال مشروعها الرافض وهي من تجهل ماسيحمله لها العيد من الماضي ؟
في غمرة هذا الحاضر القلق، ولأسباب مجهولة، واضحة، ملتبسة بآن معا يتقدم ماض كان بالأمس جميلا !!
هاهو ذا يطل بإشراقه الأول، وشوقه الأول، وبفيض صور وذكريات غيبتها السنون، وآخر من ذهول، وحيرة، وظنون، وتساؤلات:
هل عاد ماسكناه بالأمس البعيد كي يسكن حاضرنا من جديد ؟..وهل ماراح يسيل من خيال وذاكرة هو أمسها ؟!.. ومن هو الآن قبالتها حقا هو ؟..إذا أين اختفت مشاعر الحب، واللهفة، والرعشة ؟.. وأين ماكان يبعثه ذاك الحضور في نفسها من نشوة ؟!..
ممايحتدم داخلها من صراع مباغت مابين ماض طارئ، وحاضر حائر، حاولت استعادة قليلا من مشاعر أخمدها الكبرياء تارة، والعتب والظنون تارة أخرى، لكن دون جدوى !
مع غياب تلك الجماليات الروحية عن هذا اللقاء أيقنت ان من هو الآن هنا ليس هو، بل رجع لصدى أمسهما المشترك الذي افتقد اليوم داخلها شبيهه..
ماأبعد اليوم عن الأمس زمانا، ومكانا، وحنينا، وعاطفة!!
عندما تتواكب حاجات ورغبات الانتظار بالحضور، فإنها ستجني أكلها كاملا دونما نقصان، لكن من ننتظره طويلا كي يأتي ولايأتي، يفقد حضوره الغير منتظر رونقه وغايته..

هنااااك..

هناك..ماقبل انحدار الرخام بقليل، وقبل وقوع ذاك الربيع في فوهة الزمن الرديء، كان الحب أخضرا، ربيعا تقدم زمنه مشاغبا زمنا آخر هو أول شتاء قارص، حين كانت السماء تمنح عطاءها السخي نحو أرض ترتعش حبا وتتأهب لولادة ربيع جديد، فللشتاء طقوس لاتقل جمالا عن باقي الفصول، وللشتاء تميز معرفة الذات، ونضوج الفكرة، والحلم، والرغبة..
بمكوناتها الطازجة البكر، وبفوضوية عاطفة طفلة، تتراوح مابين غموض، ووضوح، وحلم تدثره ضبابية المعرفة واكبت شتاءها..
لم يتضح حلمها بعد، ولم تمتلك من الالحاح مايعجل نضوجه لكنها ستدركه جيدا عندما سيكون وحده القادر على تحويل هذا الشتاء الى ربيع دافئ يحتضن ذاك الحلم، ويمضي به من حالة المكون والغموض نحو مستقره ومستودعه..
عندما يفوق الحلم حقيقة متطلباتنا المتواضعة منه، تتحول السعادة الى حرج، يصيب الروح ببارقة يغدو معها البعيد قريبا، والمستحيل ممكنا، ويهيأ اللقاء مابين أرض وسماء حين تحولنا المفاجأة إلى مخلوقات سماوية، يكشف عنها الحجاب عند اول وقوع للذات على مرآتها الناصعة، لتتضح لنا أغوارها، وتسكن الغربة مكوناتها الأولى..
بشفافية زهرة لوز مضت نحو ربيعها، موقنة أن الزمان قد زف لها سعدها..
هاهي تواكب حقيقة كانت منذ قليل خاطرة عابرة، لتدرك للمرة الأولى ماتحمله النظرة، والهمسة من معاني، وهي من كانت أمس القريب سكنى شرنقة من أضغاث أحلام.
في خضم ذاك الربيع وتراتيله المقدسة، يستيقظ حدس المرأة داخلها رغم طفولته، لينبئها عما يبدد حلمها، تراوغ قلقة حدسها، تتلمس حلمها فتجده حقيقة وواقعا لاشك فيه، تحتضنه بكلتا يديها، تستنشق هواءا مريحا وتتابع بحذر تفاصيله، لكن حدسها كان هو حقيقة ماينتظرها، حين اختفى الحلم ومضى ولم يتبق لديها ما تنتظره..

الآن..

مع تفقد ذاك الماضي الحاضر اليوم هنا، وماأنتجه هذا اللقاء من مشاعر عاقلة فاترة، تغادر مافرضته نحو ذاتها من عزلة، ترسل ابتسامتها المائلة التي تقول: أنى لهذا الحضور الطارئ من استعادة ماض غدا سكنى ذاكرتها الهاجرة ؟!!!

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!