صمت بريء/ بقلم: عبد السلام كشتير

سئمت تلك النظرات التي تلاحقني دوما من أفراد عائلتي، لم أعد أتحملها، تشعرني بأنني مختلف عن إخوتي وربما عن باقي الأطفال في علاقتهم بٱبائهم. لكنني لا أتعمد سلوكي ومواقفي وردود فعلي تجاه أبي. أعتبرها عادية لا أتصنعها. أترجم هذه النظرات بكونها تعتبر سلوكي هذا موقفا وجب علي تفسيره أو التراجع عنه، وتدفعني لأعترف بذنب لم أقترفه. لا أرى في الأمر شيئا غريبا يدعو إلى القلق أو الاستياء، هكذا فهمت حالتي وتصرفي مع أبي على الأقل في سني هذا.
يجمعنا منزل جميل في بلدة هادئة. أختي البكر وأخي ثم أبي وأمي وخالتي التي تعيش معنا والتي لم تتزوج بعد، تدعو لها أمي دوما بأن يسهل الله عليها في ولد الحلال، وترد هي بصوت منكسر مليء بالأمل وتتبعه بتنهيدة طويلة شيئا ما بعدما تثمن دعوات أمي بكلمة ٱمين.
لسنا عائلة متعددة الأفراد، نعيش حياة بسيطة في غالب مناحيها. يعمل أبي في مؤسسة صناعية تبعد عن بلدتنا بأزيد من مائة كلومتر. كانت المؤسسة قريبة منا، يقضي فيها والدي فترة العمل ويعود إلى المنزل كل يوم تقريبا، لكن طرأ تغيير في مجال عملها حيث فتحت مشاريع استثمارية في منطقة بعيدة عن بلدتنا، فلم يجد أبي بديلا عن الالتحاق بعمله في مؤسسته ليستمر في إعالة عائلته..
حتمت عليه هذه الوضعية المكوث هناك مدة شهر كامل، يستفيد في نهايته من إجازة قصيرة يزورنا فيها فيقضي معنا ثلاثة أيام ليعود بعدها إلى عمله، وهكذا دواليك..
حينما رأيت النور كان والدي يعمل هناك بعيدا عنا، لم أستأنس بصورته وملامحه كما أمي، لأنني لم أكن أراه إلا مرات قليلة في كل شهر، بالرغم من اهتمامه بي كوني ابنه الأصغر، يأخذني بين ذراعيه ويحضنني ويقبلني، إلا أنني لا أشعر بنفس ما أعيشه من أحاسيس حينما أكون مع أمي. لا أهتم كثيرا بما يغدق علي من حنان وعطف ونغنغة وكلام الأطفال لأبتسم أو أدخل في ضحك طفولي هيستيري أحيانا. عكس أختي وشقيقي اللذان يفرحان كثيرا حينما يزورنا في موعده الشهري، ألاحظ فرحتهما وحبورهما وهما يتسابقان للنفاذ إلى أحضانه ويحكيان له أشياء حدثت خلال غيابه، وهو يلاعبهما ويداعبهما بكل لطف. أنظر إليهم من مهدي وأنا أنتظر مجيء أمي لتأخذني في حضنها.
وأنا صبي في المهد كنت أكتفي بالنظر إليه وإلى ملامحه، فيبدو لي شخصا غريبا عني، عادة ما أشيح بوجهي إلى الجهة الأخرى فيتركني وهو يشتكي إلى أمي من لامبالاتي وامتناعي عن التبسم في وجهه وهو يناغيني. فيكون ردها أنني صبي صغير لم أستأنس به بعد، سوف أكبر ويتغير كل شيء. يرضى بتفسيرها ويضحك معها وهو يعاود النظر إلي من مجلسه.
مرت سنتان وأنا على الحال، أرى أبي عند نهاية كل شهر، يجلب لنا هدايا متنوعة من ألبسة وحلويات وأحيانا بعض اللعب التي كنا نتسلى بها. لكن علاقتي بأبي بقيت هادئة، لا ترقى ظاهريا لمثل ما يبذله إخوتي نحوه. حتى حينما يأخذنا في جولة نتنزه في فضاءات البلدة، وبالرغم من أن والدي كان يحملني بين ذراعيه ويداعبني ويحدثني، إلا أنني أكون هادئا في ردود فعلي، لا أتكلم إلا نادرا عكس ما يحدث حينما يكون غائبا في عمله، ألهو مع إخوتي بكل ما يعشقه الأطفال من لعب ومرح وركد، وأصيح ملء حنجرتي ونحن نتنافس بيننا حول شروط لعب أو نتنازع الظفر بالكرة…
لاحظ الجميع، أعني عائلتنا، سلوكي هذا المختلف عن إخوتي وربما عن الأطفال في سني، فأصبحت حديث الكبار، يبحثون في أحاديثهم عن الأسباب الكامنة وراء هدوئي وسكوني حينما يحضر أبي من عمله، بل لاحظت علامات الانزعاج ظاهرة على محياه. أنا لا أتصنع مواقفي هذه، ولا أتعمدها لأثير غضبه وقلقه، فقط لا أشعر ربما بما يشعر به إخوتي نحوه. أحيانا أتساءل مع نفسي لماذا لا أتصرف مثل كل الأطفال في سني مع أبي كما يتصرفون هم مع ٱبائهم. لا أجد تفسيرا لفعلي هذا، فعقلي الصغير لا يقوى على التحليل والتنظيم كما الكبار، لأقنع الٱخر بموقفي وبسلوكي الذي لم أختره بل وجدت نفسي أعيشه تلقائيا وبصفة فطرية.
يثيرني كثيرا موقف أمي التي تعاتبني على فعلي هذا دون أن أعرف حقيقة هذا العتاب، أواجهها بالسكوت وطأطاة الرأس أو الانصراف من أمامها. لكنني أجدني أتواصل معها كأي طفل في سني بكل ما يتطلبه هذا التواصل من كلام وأفعال وسلوكات وترحاب .. مع أبي يختلف الأمر. أعرف أنه لا يستصيغ موقفي وسلوكي فأنا أتعامل معه بكل هدوء ودون تصنع، الفرق بيني وبين إخوتي أنني لا أقبل عليه بالتلقائية التي يكونان عليها. لا أضحك إلا نادرا أكتفي بالتبسم أو الصمت تجاه أي موقف.
أحيانا أشعر بكل أشكال اللذة تغمر قلبي حينما يحدثني والدي، فأحس بخفقانه بين أضلعي، كما لو أن أسراب الفراشات الملونة تحوم حولي وتدغدغني، فتملأ دواخلي غبطة وفرحا، أو حينما أجلس بجانبه وهو في غرفة الجلوس، فيخيل إلي أنني ألمس نظراته وأحضنها، وأستوعب نبرات صوته وهو يتحدث أو يخاطبني، فأشعر بقلبه يشع عواطف ومحبة نحوي. لكنني لا أقدر على ترجمة هذه المشاعر إلى تعبير إيجابي يظهر تلقائيا في ردود فعلي تجاه هذا الإحساس.
صار الأمر عاديا بالنسبة لي مع الزمن، لكنه أصبح مقلقا ومحرجا بالنسبة لوالدتي وخالتي، وخلق لهما توترا نفسيا دائما. بينما لم ألمس أي شيء يذكر في مواقف إخوتي، فهما يلهوان وينخرطان معي في اللعب دون الخوض في هذا الأمر، نعتبره دون الإفصاح عن ذلك، من صلاحيات الكبار، أما نحن فعالمنا هو المرح واللعب واللهو بكل ما أوتينا من وسائل.
توالت الشهور على غياب والدي وحضوره المحدود بيننا واستمرت علاقاتنا في البيت بنفس الوتيرة التي نعيشها منذ أن رأيت النور بين أفراد أسرتي. لكن حدث تغير في الرتابة التي دأبت الأسرة عليها بعدما التحقت شقيقتي وبعدها شقيقي بمدرسة البلدة. بقيت وحيدا أقضي سواد يومي أفكر في وقت رجوعهما، فأصبحت أمل وأضجر من الفراغ الذي تركاه في البيت والفضاءات المحيطة به بذهابهما للدراسة، صارت الساعات ممتدة وزاد فائض الوقت لدي وأصبحت منعزلا أكثر من ذي قبل.
كنت أبحث عن أقراني من أبناء الجيران لألعب معهم لكنني لاحظت أن معظمهم التحقوا بالمدرسة، فكنت أنزوي في أماكن أنتظر رجوعهم من مقاعد الدراسة لنلعب جميعا، إلا أن رغبتي كانت تصطدم بامتناعهم عن اللعب عند عودتهم، حيث كان يصيبهم العياء والإرهاق من طول الساعات التي يقضونها في مدرستهم، ناهيك عن التمارين التي هم مطالبون بإنجازها، فكنت أعود بخفي حنين بعد لحظات الانتظار.
زاد الملل والضجر وفائض الوقت مع توالي الأيام، وبت أفكر في الالتحاق بالمدرسة أنا كذلك بعد أن أصبحت قريبا من سن التمدرس الذي تقبل به مدرسة بلدتنا كما جاء على لسان أمي، الشيء الذي حفزني كثيرا وجعلني أعد الأسابيع والأيام والساعات من أجل تحقيق رغبتي التي كنت أبحث عنها وأنا أتصفح كراسات إخوتي حينما أجدها على مقربة مني، فأنظر إلى صفحات كتب القراءة وأتأمل الصور والحروف والخطوط والألوان، ولو أنهما كانا ينزعجان من اقترابي من محفظتيهما خوفا من أن أعيب أدواتهما فينالان العقاب من معليهما، فيشتكيان لأمي التي تنهرني وتمنعني من الاقتراب منها…
التحقت في الموسم الموالي بمدرسة البلدة، وأحرزت أنا أيضا على محفظتي وأدوات الدراسة. أعجبت كثيرا بأجواء المدرسة والنظام داخل الفصول. وجدت في الاستراحة ضالتي حيت التقيت بعدد من رفاقي ومعارفي وصرنا نلعب ونلهو بكل حرية. لاحظت أنني أستوعب سريعا كل ما يقدمه لنا معلمنا الشاب البشوش من دروس، بل كان معجبا بذكائي، هذا ما فهمت حينما التقيناه، وأنا بصحبة أمي، فأثنى على اجتهادي وسرعة فهمي واستيعابي. سررت كثيرا وأنا أسمع ثناء معلمي على مجهوداتي.
كانت السنة الدراسية قد انتصفت حينما أجرينا اختبار الدورة الأولى. أرجع إلينا معلمنا دفاترنا لنعرض نتائجنا على والدينا.
كانت العلامات التي حصلت عليها متوسطة مقارنة مع علامات إخوتي، إنما ليست سيئة، لاحظ معلمي أن خطي سيتحسن مع الممارسة، كما أنني سأتدارك بعض الهفوات بالرجوع إلى دروسي. لم أكن أفكر كثيرا في النقط المحصل عليها طالما أنني أفهم واستوعب ما يلقيه معلمنا من دروس على مسامعنا وما يشرحه لنا من معلومات. لكن أبي كان له رأي ٱخر.
توافقت إجازته مع نهاية الدورة الأولى، وهو يعلم أننا سنحمل معنا نتائجنا الدورية. في المساء تفقد نتائج إخوتي وأثنى على اجتهادهما ونوه بالعلامات التي حصلا عليها. ثم انقلب نحوي وخاطبني بنبرة عنيفة نسبيا.
– هات محفظتك وتعال إلى هنا،
وهو يشير بيده إلى المكان الذي يجلس فيه.
سلمته محفظتي، أخرج منها دفتر الاختبار ذي الغلاف الأحمر، ثم فتحه. ما إن وقعت عيناه على صفحاته حتى تبدلت ملامحه واتسعت عيناه قليلا، ثم خاطبني بلهجة لا تخلو من شدة،
– ماهذه النتائج؟ خطك ردئ.
– نعم هذا ما قاله لي معلمي، لكن ..
قاطعني وهو يغلق الدفتر ويضعه فوق المحفظه بقليل من العنف.
– كان هذا منتظرا. من لا يتكلم وليس كمثل إخوته كيف له أن يدرس ويتعلم.. وينجح !
بقيت صامتا أنظر إليه. لا أعلم لماذا تحامل علي وعلى نتائجي. إنها ليست ضعيفة، ومعلمي ينتظر أن أتحسن في المستقبل …
ثم أمرني أن أجمع أدواتي وأن أبتعد عنه. فنفذت الأمر بهدوء.
في ٱخر يوم من إجازته وهو يغادر نحو عمله، خطت أمي خطوات بعيدا عن باب المنزل وهي تودعه، فأسر إليها بكلمات سمعت بعضها،
– خديه إلى الطبيب المعلوم كما قلت لك، واحرصي أن تعلمي منه كل شيء.
ثم غادر نحو وجهته كما كل إجازة شهرية.
لم تتوان أمي في الذهاب إلى الطبيب المعلوم في بداية الأسبوع كما أوصاها أبي بذلك. بعدما تناولنا وجبة الفطور، رافقنا أنا وأمي إخوتي إلى المدرسة، فاستغلت فرصة وجودها هناك لتخبر معلمي بغيابي المؤقت عن حصص الصباح.
توجد العيادة في الطابق الأول من عمارة أنيقة على الشارع الرئيسي، ألفيناها فارغة، استقبلنا الطبيب بابتسامة مصطنعة وهو يسأل عن المعني بالزيارة. حدثته أمي بصوت منخفض لتشرح له حالتي وأنها هنا لتنفيذ قرار أبي، وكلام ٱخر لم أسمعه. بقي الطبيب ينظر أمامه وهو ينصت إلى أمي، ثم حول نظرته نحوي وأمرني أن أستلقي على سرير أبيض قريب من مكتبه. فحص جسمي بدقة حيث جس نبضي بٱلته العجيبة الباردة، ونظر إلى عمق عيني ثم تفقد أذني من الداخل بٱلة تشبه مزمارا صغيرا. وأمرني أن أخرج لساني، بل نظر حتى تحت تباني. وفي الأخير أجلسني على حافة السرير وأخذ مطرقة صغيرة صقيلة ونقر نقرات خفيفة على مستوى ركبتي.
كنت مطيعا لأوامره أتابع حركاته وأجيب عن أسئلته، صامتا أنظر إلى محياه الذي بدا لي غريبا شيئا ما، حيث تحتل شعيرات لحيته معظم وجهه الطويل بشكل غير متساو، يطل أنفه الغليظ نسبيا على شفتين مندفعتين إلى الأمام، تكاد عيناه تنفلتان من محجريهما. أهذا هو الطبيب الذي عين لنا أبي؟ أتمتم في نفسي وأنا مستلق على السرير وأجول بعيني في فضاء غرفة الفحص التي نحن فيها. بعدما انتهى من عمله، جلسنا إلى مكتبه فصار يسألني عن إسمي وسني وإخوتي وأشياء كثيرة تتعلق بالمدرسة والدراسة واجتهادي في دروسي .. سألني عن كل شيء. ثم انتصب واقفا وقال بصوت فيه بعض الرقة:
– انتهينا …
خطونا نحو أمي التي بقيت جالسة بعيدا عنا شيئا ما، ثم خاطبها أمامي بكلمات مسموعة،
– سيدتي، ابنك طفل عادي لا يشكو من أي شيء حسب المعاينة والفحص الذي أجريته له..

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!