قراءة  في  قصيدة  وجع الغياب بقلم الناقدالمغربي  أحمد وليد الروح 

 

 

 

هلوسة ( وجع الغيم )
***************** لــ :محمد صوالحة
يا انت
منذ امعنت الغياب
ضاق السطر بحرفه
وضاقت بالقلب
الحياة
فلا انت عدت
ولا عاد للكلام معناه
يا انت
ما عاد الورد يصلي
ولا للعطر ابتهالات
ما عاد في الذكرة
طعم قبلة
ولا عادالاحمر
يتزين بالشفاه
كل شيء يا سيدي
فقد معناه
فلا لليلك لون
ولا للبنفسج صلاه
ولا لي دروب
بها اسعى
ولا لي من ناري نجاه
ولا عاد الا السوأل بحر متلاطم
والاجابه حيرة ونيه
والاجابة انا
حين فقد مسيري
خطاه
ربما الاجابة
كانت كتاب
ضاعت منه القيم
او فقد محتواه
او هي فنجان قهوتي
فقد طعمه
او سرقت منه الريح
شذاه
يا انت
ضاق بي العمر
فما عاد قلبي
يعرف معنى
الحياة
منذ كنت
وانا كما موسى
انت عصاي
اشق بها بحر المتاعب
اهش بها قلقي ووجعي
وقطعان الغيم
ارسم بها حلمي
ولا ادري يا سيدي
من سرق من يدي
تلك العصاه
النهر يحزنه باق
يخوفه باق
والارض مجروحة
والغيم وجع الدموع
وانا المصلي هناك
فهل يعرف موجوع
كيف يقيم الصلاة

——————————–

ابتدأ الشاعر محمد صوالحة قصيدته بحرف النداء في شبه دعوة شديدة منه الى مخاطبه قصد الإصغاءِ له و سماعِه و ربما رغبة منه في عودته و الإقبال عليه … انه تمني اكثر منه نداء .
فصوت الشاعر الذي ينادي مخاطبه ( وهو على الأرجح والده رحمه الله ) من خلال حرف النداء (يا) الذي جاء في العديد من الابيات ، ليكون المعنى الْعَام للقصيدة مرتبطا بالمشاعر الحسية للشاعر فتصبح هي المحرك الرئيسي له ، حيث تسلبه إرادته و تجعله ينساق وراء مشاعره في شبه دوامة لا يكاد يخرج منها ناجيا … هكذا يحاول الشاعر تشخيص حالته بعد غياب والده عندما يقول:
يا انت
منذ امعنت الغياب
ضاق السطر بحرفه
وضاقت بالقلب
الحياة
فلا انت عدت
ولا عاد للكلام معناه
يكلم والده و كأنه مازال حيّا يرزق و كأن الشاعر مازال يتوسله العودة ، فمنذ غاب عنه والده و أمعن في غيابه و هو يعاني ، لم يعد لحياته معنى فقد ضاق قلبه ولم يعد يستسيغ العيش بدون والده ، وإن كان من قبل ( أي بحياة والده ) يلجأ للكتابة كمتنفس الآن لم يعد يستطيع الكتابة و إن كتب لا معنى للكلام عنده هي كلمات يضيق بها السطر كما تضيق بالقلب الحياة .
و يستمر النداء على نفس المنوال لكن بطريقة توضح معاناة الشاعر مخبرا والده أنه منذ غاب غاب كل شيء فقد كان والده رمزا للمسلم المتدين الحق الذي ان لم تشاهده يصلي تجده يسبح أو يكبر أو يدعو فهو بدعواته كان يحمي أبناءه من كل مكروه و بتلك الطقوس الدينية كان البيت مفعما بالطمأنينة يملأ المكان بصلواته و تسبيحه فكان كل شيء جميلا و مزهرا وقد عبر الشاعر عن ذلك الجمال بأن جعل للورد صلاة و للعطر ابتهالات و جعل طعم الذكر قبلة أما الشفاه التي تذكر و تسبح و تبتهل فقد تزينت بالأحمر و هو خير دليل على بهاء المسلم و حسن محياه و كل هذه الصفات كانت مجتمعة في والده رحمة الله عليه . و هكذا نجد الشاعر يقول :
يا انت
ما عاد الورد يصلي
ولا للعطر ابتهالات
ما عاد في الذكرة
طعم قبلة
ولا عادالاحمر
يتزين بالشفاه
و يستمر في مناجاته مناديا ، متوسلا والده و مخاطبا إياه بصيغة يظهر فيها تشريفه لوالده و شدة حبه له و ايضا طغيان عاطفة الحرمان الشيء الذي تولد عنه معاناة شديدة جعلته لا يعرف للحياة طعم و لا معنى فلا الليل ليل و لا للبنفسج صلاة و قد اختار زهرة البنفسج للتعبير عن حزنه الشديد و حبه الصامت فربنا هو لم يخبر يوما والده بأنه يحبه لكن الان بعدما غادره يحس بالحب يتأجج داخل أوصاله يكاد يفتك به و ايضا اختارها لكونها ترمز للتواضع و الحب و الاحترام و هذه صفات والده رحمه الله .
هكذا يعبر الشاعر عن حياته التي فقد معها دروبه و مسعاه ( لا لي دروب — بها أسعى ) فهو أصبح تائها بلا وجهة لم يعد يفكر بشيء لا بحاضر و لا بمستقبل و لم يعد يهمه شيء بقدر ما يحمله حزنه للبحث عن والده و كأنه غاب عنه كل احساس الا من نار متأججة داخله تأكله و لا نجاة له منها ، و قد عبرعن كل هذا بقوله :
كل شيء يا سيدي
فقد معناه
فلا لليلك لون
ولا للبنفسج صلاه
ولا لي دروب
بها اسعى
ولا لي من ناري نجاه
هو التيه يسرقه من نفسه و تكثر أسئلته التي يشبهها بالبحر المتلاطم الأمواج لكن لا اجابة فكل أجوبته تدخله في حيرة و تيه و ربما تعيده إلى يقينه بنفسه و ما آلت إليه فهو اصبح تائها و مثقلا بالاحزان و إن بدا له من يقينه أنه يتوجب عليه المسير و إكمال الطريق للاخر و ما على عاتقه من مسؤوليات تحتم عليه السير إلا أنه بلا قوى ، متعب لا يستطيع ، فهو الان تارة يشبه نفسه بالكتاب لكن ضاعت قيمه و محتوياته فلم يعد منه جدوى او نفع .. و و اخرى يشبه نفسه بفنجان القهوة الذي فقد طعمه أو سرقت الريح شذاه ، فيقول :
ولا عاد الا السؤال بحر متلاطم
والإجابة حيرة وتيه
والإجابة انا
حين فقد مسيري
خطاه
ربما الإجابة
كانت كتاب
ضاعت منه القيم
او فقد محتواه
او هي فنجان قهوتي
فقد طعمه
او سرقت منه الريح
شذاه
و يستمر في المناداة موضحا شدة ضيقه و تعبه فلم يعد يعرف معنى للحياة و ربما كرهها أو زهد فيها لم تعد تعني له شيئا ، فلا شيء فيها يعجبه أو يرغبه في المزيد ليعيشه ، و كأنه أصبح يراها بعين أخرى تصور له الحقيقة الجلية للدنيا و تفاهتها ، فهي بكل مباهجها لم تعد تساوي عنده شيئا إذ يقول :
يا انت
ضاق بي العمر
فما عاد قلبي
يعرف معنى
الحياة
فمحمد صوالحة يعرف معرفة عقائدية ان حياته كلها مقدرة فهي قدر الله و كل شيء مكتوب و مفصل بقدر محكم لكنه رغم ذلك لا يستطيع تجاوز معاناته فهي تطبق عليه ، تمتلكه وتاخده من نفسه لتدخله عالما لا متناهي من الأسئلة تتعبه و تقلقه و تجعله يبحث عن الكثير ليفهمه وإن كان الإسلام قد أجاب عن جل هذه الأسئلة التي تراود كل إنسان حول الوجود و حول مصيره بالحياة الأخرى ، لهذا نجده في بحث دائم عن أسباب الوجود و أسباب اقتران الحزن بهذا الوجود فلا تكاد تحلو الحياة عنده حتى يتبعها كدر وحزن ، و هذا الحزن يشكل منعطفا كبيرا بحياة الشاعر محمد صوالحة الشيء الذي يجعل حياته مقترنة بحزنه فهو لا يمكن أن يحس نفسه حيّا يرزق بدون هذا الحزن الذي يسكنه و يؤثر فيه و في تفكيره .
بعدها يلجأ الشاعر للتناص حيث يأخذ من النص القراني قصة نبي الله موسى عليه السلام حين سأله الله سبحانه و تعالى عن عصاه فأجابه ، وهذا هو ما جاء في النص القراني : ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى﴾ ( سورة طه الآية: 17-18) و عند مقارنته بالنص الذي بين أيدينا نجد هذا الأخير بدلالاته التي تحمل رؤيا الشاعر قريب كثيرا من مفهوم النص القراني، فعصى موسى وسيلته في الحياة يتوكأ عليها و يهش بها على غنمه و له فيها مآرب اخرى اي انه اذا اضطر يدافع بها عن نفسه و كذلك شاعرنا جعل من والده عصاه التي يتكىء عليها فهي سنده و مصدر قوته فهي عصاه التي يشق بها بحر المتاعب كما شق نبي الله موسى عليه السلام البحر لينجي قومه من فرعون و قد جاء في النص القراني ( فَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ ۖ فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍۢ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ ) ( الشعراء الآية : 63 ) و ايضا فان الشاعر يهش بها قلقه و وجعه و قطعان الغيم و يرسم بها حلمه ، و هذا ليس بغريب على شاعر يعتبر والده سنده و معينه و مدبرا له و ناصحا … فهو كل شيء بالنسبة له و بدونه هو لا شيء لكن يد القدر سرقت منه عصاه و لم يتحمل موت والده لهذا ينكر الموت و لا يريد الاعتراف بها لهذا يتساءل باحثا عن السارق . بهذه الأبيات الشعرية التي تحمل أبنية مكثفة و دلالات تاريخية يعود بِنَا الشاعر في محاكاته إلى العصر القديم عصر الأنبياء
إذ يقول :
منذ كنت
وانا كما موسى
انت عصاي
اشق بها بحر المتاعب
اهش بها قلقي ووجعي
وقطعان الغيم
ارسم بها حلمي
ولا ادري يا سيدي
من سرق من يدي
تلك العصاه
و في الأبيات التالية نجد الشاعر غارقا بحزنه باق في خوفه الدائم لا تلتئم جراحه مستمر في بكاء ابيه ( الارض مجروحة – و الغيم وجع الدموع ) كناية على دموعه الغزيرة التي شبهها بالغيم . هكذا يتداخل الواقع المرير والعالم الشعري ، عالم الخيال المكثف و تتداخل “انا ” الشاعر الحقيقية الملامسة لهذا الواقع مع ” الأنا ” العلوية للحظة الشعرية المنبثقة عن اللحظة الشعورية التي تجمع المتناقضات فشاعرنا يعلم ان الموت علينا حق و انه عليه ان يحمد الله في سرائه وضرائه لكنه من فجيعته لا يستطيع ذلك ( فهل يعرف موجوع – كيف يقيم الصلاة ) و هذا ناجم عن صراع القوة و الضعف داخل محمد صوالحة فيقول :
النهر يحزنه باق
يخوفه باق
والارض مجروحة
والغيم وجع الدموع
وانا المصلي هناك
فهل يعرف موجوع
كيف يقيم الصلاة
إن قصائد محمد صوالحة مفعمة بالصراع بين سطوة القدر وبين الطموح الفردي للخروج من اي ماساة حيث نلمس هذه السطوة في هذه القصيدة التي بين أيدينا ، و شاعرنا محمد صوالحة ضمن هذه اللحظة نجده مجرد من كل قوة إلا من نفسه و صراعها مع الالم و الوجع و الحزن ، لكنه في ظل هذا الصراع و رغم رفضه للواقع الا ان تأثيرالسلطة الدينية في عمق تفكيره تبدو واضحة من خلال استعماله لمصطلحات دينية عقائدية ترسخ عمق تفكيره و اتجاهه الديني . لكنه قبل كل ذلك و برغم شاعريته يظل إنسانا بسيطا يعيش المحن و يعبر عنها بوسائله الخاصة ( الشعر ) محاولا إيجاد خلاصه من كل المعاناة و الأفكار السلبية التي تسيطر عليه فهو يعرف كل شيء لكنه بإرادة منه أو بدونها يجهل أو يتجاهل كل شيء .

بقلم الناقدالمغربي  أحمد وليد الروح

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!