رسالةٌ في مطلع عمر السبعين/بقلم:ولاء نعيرات (جنين)

كنتُ قابَ نصَّينِ وقصيدةٍ، وفجأةً، شعرتُ أنَّ كلَّ الكلامِ قد ذبُلَ في قلبِي، ولم تعد غيمةُ الإلهامِ تمطرُ داخلَ صدري.

أُمسكُ بقطعةِ شوكولاتةٍ داكنةٍ وأقرأُ المكوِّناتِ لأجدَ كلمةً جديدةً لا أعرفُها، أبحثُ في مشطِ محتوياتِ المُعلَّباتِ والألبانِ عن شيءٍ يخصُّني، صرتُ مهووسةً بالتسوِّق في المحلَّاتِ التجاريةِ الخاصَّةِ بالموادِ الغذائيَّةِ، ومُطالعةِ ما يُدوَّنُ على المنتجاتِ المتعددةِ. يمكنُ أن أدخلَ وزارةَ التجارةِ كماركةٍ خاصةٍ بإنسانٍ يمكنُ استنساخُهُ وبيعُهُ فيما بعد، كلُّ شيءٍ قابل للبيعِ، حتى أنا. كلُّ الأشياءِ تغيَّرت، ترتفعُ الأسعارُ وتنقُصُ قيمةُ الإنسانِ.

مرهِقٌ هذا التفكيرُ، وكأنَّكَ تريدُ أن ترسمَ مُخطَّطًا ولا تعرفُ أين تضعُ المِسطرةَ وأين تضعُ الخطَّ الأولَ.

أنفُضُ رأسي من الغُبار الذي استوطَنَهُ منذ أن جفَّ عقلي، يتصاعدُ دُخانٌ ويرسمُ غيمةً لا تُمطر، تذروها الرياحُ، أفتحُ صدري حتى أطمئنَ على هذا الجهازِ الصغيرِ البديلِ عن قلبي، أتجهُ نحو مكتبتي بحثًا عن كتابٍ جديدٍ، كانت هنا مكتبتِي! مَن يعبثُ بأشيائِي؟ ذاتُ الصدى المُعتادِ يأتي ويهمِسُ: أنتِ!

يدورُ الحوارُ العقيمُ المُتكرِّر، النتيجةُ الحتميَّةُ المُعتادةُ تحدثُ.

أتشنَّجُ وأسقطُ على الأرضِ، يا إلهي، هذه النوبةُ أعرفُها، تظهرُ لافتةٌ على بابِ غُرفتي: عُذرًا، أنا مشغولةٌ بترميمِ هذا الجسدِ الآلي.

هذا اختناقٌ متأخِّرُ لن تسمَعَهْ، لن تأتي وتفتحَ نافذةً في السماءِ، هذه الكآبةُ فوقَ رأسي كقُبَّعة، أحتاجُ أن أموتَ بالقدْرِ ذاتِه الذي أحتاجُ فيهِ أن أحيا، أترنَّحُ على الأرضِ المُمتدَّةِ من وجعٍ إلى وجع، ولا أعرفُ كيفَ أكتبُ الكثيرَ من الكلماتِ بترابُطٍ في موضوعٍ، في نصٍّ، في قصةٍ حتى تكونَ مُكتمِلةً، كما يقولُ صديقي الشاعرُ. متى اكتملتْ فرحتُنا أو لحظتُنا أو حكايتُنا؟ كلُّ الأشياءِ ناقصةٌ.

عادتِي، أن أكتبَ فكرةً وأنوي أن أُكملَها، ولا أفعل. عادتي أيضًا، قطعَ التواصلِ مع العلاقةِ التي تكادُ تكبُر، وأن أبترَ الجملةَ في الجزءِ الأخيرِ، وأن أحضُرَ إلى أيِّ موعدٍ بعدَ الأخيرِ، وأن أعلمَ من الحياةِ أقلَّ مما يُفترضُ بكثيرِ.

سأعترفُ، أنَّ الكتابةَ إليكَ كانت ممارسةَ شيءٍ مُختلفٍ، ثم تشعَّبتِ الحكايةُ، ويبدو أنَّ قدَري يتعارضُ مع الكتابةِ أيضًا، يجبُ أن أصمتَ، فأنا لا أعلمُ يقينًا بما يحدثُ.

التعبُ حلَّ بأطرافي، وأشعرُ أن راقصةً تٌغويني فلا يتوقفُ هذا العزفُ في رأسي، تستحقُّ أنامِلي أن تعتزلَ هذا الهذيانَ، المِضمارُ طويلٌ وطاقتي ضعيفةٌ، ولا أقدرُ على المزيدِ.

فقط أحتاجُ أن أُغلقَ جهازي، بعد أن أمسحَ كلَّ اللحظاتِ السابقة، وأُلغي كلَّ الأفكارِ المُعلقةِ كمهامٍ مؤجَّلَةٍ، وأستندَ على جدارِ خربشتِي، وأغفو.

حتى فكرةُ النومِ غيرُ جيِّدةٍ، أُعاني من لعنةِ الكوابيسِ، هذهِ اللعنةُ نغَّصتْ منامِي، أفيقُ غالبًا والعرقُ يتصبَّبُ من جبيني، وأشعرُ أنَّ جسدي مُفكَّكٌ عن آخره.

كُرياتُ الدمِ البيضاء تشتكي من نِضالِها مع هذهِ الفيروساتِ، والمؤلمُ أنَّ عقولَنا لا تُفرِّقُ بين الحُلم والحقيقةِ، وتقومُ بحالةِ استنفارٍ عند كلِّ نداءٍ، وأنا عاجزةٌ عن مُلاحقةِ أوجاعي!

أخذتْ حياتي منحًى غريبًا لم أكن أتوقَّعُه، وهذه التفاصيلُ الجديدةُ لا تُناسبُني، أنا أقربُ إلى رصيفٍ منفيٍّ، وعمودِ نورٍ تسكُنُ أعماقَهُ مئاتُ المساميرِ، وثرثرةٍ مع بعضِ الخَوَنة، وحماقاتٍ لا تنتهي.

أريدُ مقهًى شعبيًّا غارقًا في الحنين، يكتظُّ بالدخانِ والحنقِ، وأرتشِفُ فنجانَ خيبةٍ، ثم أُعيدُ كلَّ ما قلتُهُ من قبلُ، كشريطٍ سخيفٍ لا يكفُّ عن تكرار ذاتِ المقطع.

أتمنى أن أعودَ للخلف، قبل الميلادِ بلحظةٍ فقط، حينها كنتُ سأخرُجُ مع الزفيرِ، وأعيشُ كشيءٍ مجهولٍ.

فكِّري بي قبلَ أن تنامي، أنا الغارِقةُ في الوجعِ أتمنى أن أفعلَ أيضًا، وأنامَ على صدرِكِ، على مقربةٍ من أنفاسِكِ، وعلى حافَّةِ عطرِكِ، وعلى حدودِ عالَمِكِ، وحتى على كلماتِكِ، وأعجز!

بعضُ الكلماتِ صفعةٌ، تهوي بكَ في مغارةِ الحُزن، وتُحيلُ وقتَكَ إلى ظلامٍ حالِكٍ، يعتمِرُ عقلكَ بعضَ النملِ، ولو أنَّ أفكارَكَ ليست قطعَ سُكَّر، ولكنَّها بيضاءٌ فقط، بياضَ الأشياءِ البعيدة.

فُنجانُ وجعي ساخنٌ، وأرتشِفُ حُزني ببطءٍ. وأجزمُ أنهُ لا شيءَ يحدث، فقط خيباتٌ تتوالى.

يا رب، لم أعُد أملِكُ من الأمرِ شيئًا، ولم أملِك من أمري يومًا شيئًا، تعهَّدني بلُطفِكَ يا رب.

أكرهُ أن أعودَ، وأكرهُ أن أستعيرَ سكونَ أحدِهم وأفعل، وأكرهُ الأشياءَ الباردةَ، لكن أجدُني أُسخِّنُ القهوةَ التي أعددتُها قبل يومينِ وأشربُها.

كلُّ الأشياءِ نائمةٌ، حتى العصافيرُ المُكلَّفةُ بأُغنياتِ الفجرِ لم تستيقظ اليومَ، لعلَّها تمرَّدتْ على قانونِ الحياةِ، الآن أنتظرُ الغُرابَ أن يقفَ على الشُّرفةِ ويُغرِّدَ، وتنتظرين مني أن أُبعثرَ أحزانَكِ، وأنا أبدو ثقبًا صغيرًا يُساعدُكَ على أن تتنفَّسَ، أحترِقُ، وأحترِق،

تعالَي وتحسَّسي بردَ الرمادِ، تعالي هذا قميصي يُراوِغُني، فكُلَّما نقصَ وزني ضاقَ قميصي على صدري واختنقتُ.

تعالي لأُخبرَكِ أنّ الكتابةَ حياةٌ والكلامَ موتٌ، فصوتي قد يضيعُ وحرفي خالِدٌ للأبد.

تعالي حتى أتعافى من انفصامِي، ما بينَ روحٍ فيكِ وروحٍ فيَّ تحنُّ إليكِ.

تعالي.”

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!