قوانين تحرِّم المباح، وتمنع المسموح على مصر

ناصر ميسر 

هناك عقول فى مصر تعمل بجِد واجتهاد على أن تُضيِّق الواسع، وتُضيِّق الضيِّق، لأنها فُطرت على كُره الحرية، واعتادت أن تفصِّل قوانين تحرِّم المباح، وتمنع المسموح به، وتقيِّد الحُر، وتجرِّم ما لا يُجرَّم، على الرغم من أن القاعدة الفقهية تقول: «الأصل فى الأشياء الإباحة».

ألا توجد مواد فى القانون المصرى تكفى للتجريم والحبس، أم أن العقول الضالة والمظلمة اعتادت فى كل العصور أن تسهم فى الاستبداد والتشدُّد، ساعيةً إلى حماية شخص أو أكثر بأن تحبس العقل الباحث عن الحقيقة؟ هل السجن سيحمى رمزًا تاريخيًّا من دراسته دراسةً علمية؟

بمعنى لو أننى قلت الآن إن ابن دوواد الأصبهانى الظاهرى (201 – 270 هـجرية/ 816- 884 ميلادية) صاحب كتاب الزُّهرة- وهو أول كتاب عربى فى الحُب- هو من أفتى بقتل الحلاج، وأنه بفعلته هذه أراه مجرمًا وقاتلا وسافكًا لدم صوفى مسلم، هل أُسجن لأننى ذكرت حقيقةً سوداء فى حياة صاحب المذهب الظاهرى فى الإسلام، على الرغم من أنها ثابتة فى كل المصادر التاريخية التى تناولت مقتل الحلاج (858 – 922 ميلادية/ 244- 309 هـ)؟

ولو قلت الآن إن صلاح الدين الأيوبى هو من أمر بقتل شهاب الدين السهروردى، أحد أشهر أقطاب التصوف الإسلامى، وبفعلته هذه هو عندى مجرم عتيد، قد سفك دم عارف صوفى إشراقى كان فى السادسة والثلاثين من عمره، فهل ذِكْرُ حقيقة كهذه تكون سببًا لسجنى، وتغريمى مائة ألف جنيه مصرى أو نصف مليون جنيه، كما يحدِّد أهل الشر والجهل بالحرية التى كفلها الدين الذى يحتمون به؟ حيث إن الكلام وإبداء الرأى «هو من الحلال» وليس من الحرام فى شىء، والحديث النبوى يقول: «ما أحلَّ الله فهو حلال، وما حرَّم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئًا».

وهم لو عادوا إلى كتب التراث لوجدوا آلاف القصص والأخبار والحكايات والأحداث والوقائع التى تثبت انتقاد ما نسمِّيهم نحن الآن بالرموز والشخصيات التاريخية والدينية، من قِبَل عامة الناس قبل خاصتهم.

لماذا نتعامل مع تلك الرموز والشخصيات التاريخية، باعتبارها رُسلا أو أنبياء أو آلهة ينبغى على الناس تقديسها وعبادتها؟ هل ذكر الحقيقة عند أهل الاستبداد إهانة وانتقاص؟

وسِّعوا ولا تُضيِّقوا، ويسِّرُوا ولا تُعسِّروا، فقد يرحمكم الله. ولا تكونوا جهلة بأصول الفقه وقواعده، فإن (‏الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًى بِمَا يَطْلُبُ) [رَوَاهُ الإَمَامُ أَحْمَدُ]، (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا ‏يَلْتَمِسُ ‏‏فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) [رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ].

إن قراءة المتن التاريخى عملٌ تنويرى فى حد ذاته، يضيف ولا ينتقص، يُسهم ولا يُطمر، يكشف ولا يستر. ولا ينبغى توظيف الدين فى صراع سياسى، لدعم النفوذ والهيمنة على الناس، وتثبيت سلطان أصحاب النفوذ السياسى والدينى، والسيطرة على العباد بسن قوانين جائرة، يسخر العالم منا ويضحك علينا ويتهكم بسببها، وهى قوانين ظالمة تعود بنا إلى الخلف، وتجعلنا نرسف فى الأغلال من جديد، وتعيدنا إلى عصور الاحتلال التى شهدتها مصر.

فمثلا فى جامعة  منصور الذى فُصل من جامعة الأزهر بعد ذلك بعد نيله الدكتوراه واشتغاله مدرسا فى جامعة الأزهر، وهو الذى كان أول من قرر على الطلاب فى جامعة الأزهر سنة 1984 ميلادية كتابه «شخصية مصر بعد الفتح الإسلامى»، وعقد فيه فصلا عن اضطهاد الأقباط بعد الفتح الإسلامى، وكان ذلك أول وآخر كتاب مقرر فى جامعة الأزهر يقدِّم للطلاب هذه الحقائق، وينبِّه على مخالفتها للإسلام.

هل لو قلتُ إن عمر بن الخطاب قد حبس الشَّاعر الحُطيئة، لأنه هجا الزبرقان بن بدر أسجن؟

هل لو قلتُ إن على بن أبى طالب هو أول من ابتكر السُّجون فى تاريخ الإسلام أسجن؟

وهل لو قلت إن أغلب الخلفاء المسلمين فى العهود والعصور الإسلامية قد قتلوا وحبسوا وعذبوا وضربوا بالأسواط وجَلدوا وصَلبوا وضربوا الأعناق، ونتفوا لِحى المساجين، وشهَّروا بمخالفيهم، وجرَّسوا من خرج إلى إجماعهم، وبالغوا فى الأذى وألوان العذاب وأصنافه، أكون قد انتقصت منهم، باعتبارهم رموزًا وشخصيات تاريخية، وأدخل السجن؟

عن ناصر ميسر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!