لعنة بكل اللغات. بقلم. لجين محمد فتحي المقداد

 

آفاق حرة

 

ولدت ولم أعلم ما الذي كان ينتظرني، شاءت الأقدار أن أولد في أم ولد قرية من قرى درعا في سوريا، هذه القرية التي كان أهلها يظنون أن البنت خطيئة، كانوا يرددون أبرز عباراتهم المتخلفة “موت البنات سترة” و “هم البنات للممات”.

بظنهم أن الفتاة مصدر للبلاء والتشاؤم، وكانت عائلتي تسير على نهجهم..

الآن وقد بلغت ١٤ عاماً من الهم، أحاول جاهدة تذكر شيئاً واحداً يضحكني بقدر مواقفي المحزنة، هذه المواقف هي إثبات لحقيقة ما وراء خيبة الأمل.

في تلك اللحظات بدأت ذاكرتي تعصف بشريط حياتي أمام عيني وكأن الشعور كان بالأمس.

بدأت معانتي في أول يوم ولدت فيه، منذ أول كلمة “مبروك لقد أنجبت امرأتك فتاة” لا أنسى صوت أمي وهي تلوم نفسها على الذنب الذي اقترفته، وصوت أبي في الجهة المقابلة “ما الذي فعلته يا ربي لكي تعاقبني؟”.

كنت أبحث عن إجابة وتمنيت لو أنني وجدت واحدة، ما ذنبي؟ هل كان قدومي كفتاةٍ لأبوين يحلمان بالصبي خطيئتي الأولى؟

ولا أكاد أنسى كيف وضعني على أحد الأرصفة بجانب القمامة، وأنا الطفلة الرضيعة التي لا تبلغ من العمر سوى ساعات، هل يمكن أن تقسوا الحياة على رضيعٍ فقط لأنها فتاة!

في حين كنت آمل بحضن أمي الدافئ، كان البرد يتخلل عظامي، حينها لم أسمع سوى صوت بكائي المختلط بصوت البرق مع المطر الشديد…

أدركت حينها أن حياتي ستكون أشبه بالمقبرة!

بعد فترة ليست بالقصيرة بدأت أسمع خطوات تقترب نحوي شيئًا ف شيئًا، أشعر بالأمان لاقتراب شخص مجهول..

ولكنّي قد رأيت ظل أبي وكأنه قاتل يريد سلب روحي، لحظات من الصمت، وكأن بداخلي سؤال ما الذي أعاده!

هل شفق علي؟

لقد أعادني للمنزل، لا أعلم هل اسميه منزل أم جحيمي!

ومن هنا بدأت معاناتي الكبرى، أتمنى لو أنه لم يرجع لأخذي، قد ذقت أسوأ أيام حياتي على مدار السنين، وأنا لا أدري لمن ألجأ أو أذهب لكي يساندني في ضعفي..

أود أن أصرخ بمكان ما، ليسمع هذا الكون صدى وجعي وأن ليس بي قوة لمداواة روحي من الداخل.

أفكر ملياً، هل سأبقى أحارب وأنا لا أجيد المحاربة؟

 

كانت الأيام تمر علي كأنها سم بطيء يجري بدمي، لم أنم يوماً برخاء بسبب والدي المتعصب جداً.

لم تداعب أمي شعري قط، ولم يهدني أبي دميةً، تلبدت مشاعري واستسلمت للأمر الواقع ولم أعد أتخوف للعقاب الذي ينتظرني مع الكثير من الركل والصفع، في بعض الأحيان كنت اتظاهر أني قد فقدت الوعي فأنقذ نفسي مما بعد التعذيب وهو الإهانات المتتابعة لي ولوالدتي التي كانت تنال نصيبها من الضرب المبرح، ولأني كنت جبانة وأخاف من ظلي لم أستطع إنقاذ نفسي حتى من نظرات اللوم في عين أمي التي تقول: “أنتِ السبب”.

كانت والدتي بعد كل قتلة تقول: ” القتل عقد المحبة، الله يعينه ع المصيبة- انا – شو بده يسوي غير يسكر يفش غله فينا، ما بلومه”

هل هي والدتي أم عدوتي!!

كيف لهم أن يحملوا كل هذه القسوة والغل بداخلهم!

 

لا أعلم كيف مضت الأيام وعبرت الدقائق والساعات بكل القسوة التي مررت بها..

أفكر دائما إن كان يشعر بالذنب على كل ما فعله بي؟ وكيف استطعت النوم وانا أغمض عيني التي كادت تتفجر كل ليلة من البكاء! وجسدي الذي يؤلمني من شدة الضرب، فلا يكاد يخلو من اللون الأزرق والبنفسجي المختلط بالأحمر، كنت أشبه بلوحة فنية نحتها والدي بتعذيب دقيق..

في اللحظات التي كنت أحاول إخفاء الكدمات، والاختباء شعرت بثقل أقدامه وهو يقترب نحوي، رائحته التي حفظتها حينما كان يتعطش لضربي.. اقترب بنبرة أمر: “جهزي نفسك عريسك في الخارج”…

ابتلعت غصات متتالية ووجع لا يمكن تحمله، كنت صامتة صابرة ك ألم رصاصة تخدش القلب ولم تخرج منه أبدًا، عجز لساني عن الحديث لم أستطع حتى الرفض، تجهزت وأنا مغلوب على أمري، رأيت الفرحة داخل عيني أمي، وكأنها تقول أخيراً سأتخلص من جمرة عذابي..

تجهزت وأخفيت دموعي وحضرت القهوة، واذ به رجل أشعث في الأربعين من عمره، ينظر الي وكأنني فريسة أمامه..

النيران بقلبي هائلة، ابتلعت كلماتي وأنا أرى تعاستي ستعيد نفسها مرة أخرى…

مرت أيام قليلة حينما وضعت على وجهي خرقةً بيضاء وعلت الزغاريد فرحاً ووحدي كنت أشعر أني أساق لمذبحي…

كنت كأني صنم يسير على الأرض، كنت صامتة مجبرة على السير قدمًا، الأمر الذي أغضب زوجي الأربعيني..

وكانت نظراته بأنه يتوعد حين العودة للمنزل بضربي.

زففت إليه وكانت ليلةً تشبه ليلة مولدي بتفاصيلها القاتمة بذات البكاء وذات النظرة لوالديّ، تمنيت لو عاد أبي ليأخذني مرة أخرى، ولو كان المقر جحيمه الخاص إلا أن صفعاته كانت أهون من جسد زوجي وأنفاسه الخانقة..

كنت أشبه بطفل أبكم في غرفة تحترق ولا يستطيع الصراخ لينقذه أحد، لم أجد أدق من وصف روضة الحاج عندما قالت: “لم أعرف كيف أصف مكان وجعي، إنه وجع الروح، وأنا لا أعرف مكانها، إنها كلي.. إنها أنا؛ أنا التي توجعني”.

 

كنت أسير على أمل أن أرى حياة ولكنني كلما اقتربت رأيت بأنني أنتقل من صحراء إلى صحراء أخرى، هلكت لدرجة أنني لم أعد لدي القدرة على حملي..

مضت عشرة سنين أخرى من العذاب، لقد كانت رحلة متعبة أجبرت بها نفسي وكسوري وتقاليدي التي لا تخلو من الإهانة، ولكن لحظة انتصاري أراها أمامي وهي تقترب في هذه اللحظة، فأبي الآن على فراش الموت، وهو ينطق آخر كلماته “أرجوكِ سامحني قد أخطأت بحقك كثيراً”، لم أعد أدري حينها، هل هذه لحظة انتقام أم لذة الانتصار؟ ولكن الذي أعرفه أنني لا أحمل ذرة رحمة بقلبي عليه، أرى الآن عذاب سنيني ضعيف أمامي ويطلب السماح مني، لمست الندوب المحفورة في جسدي كانت كل واحدة تحكي قصة عذاب، كرّت ذاكرتي للوراء، وتذكرت حينها كل المشاهد..

صرخت بصوت عالٍ: ” لا سامحك الله ولا عفا عنك”..

في تلك الأثناء فارق الحياة…

حينها ضحكت ضحكة من أعماق قلبي، أحسست أنني قد ولدت من جديد، وأني طير حرّ الآن..

عدت لمنزلي وحررت ضفائري نظرت لنفسي بالمرآة، أذكر أنني لم أكن بكامل قواي العقلية، وكأن السيروتونين قد ارتفع منسوبه..

ماهي إلا أيام قليلة حتى حصلت على ورقة طلاقي…

ومن هنا بعد بلوغي 34 عامًا، أعلن اليوم أنه يوم مولدي..

وأنا اليوم أعمل عضو في شبكة المرأة السورية، أحاول جاهدة الدفاع عن المعنفات لكي لا يعيش أحد مر العذاب الذي عشته..

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!