وصية / بقلم : الدكتورة فاطمة قنديل / جمهورية مصر العربية

 

 

أنا لا آكل كثيرا هذه الأيام

أبقي نصف بطني فارغا

حتى أكون نحيفة جدا في نهاية العام

فربما أموت في نهاية العام

ويحملني على أكتافهم رجال مفتولو العضلات

يلهثون وينضح العرق منهم

أنا لا أحب الرجال مفتولي العضلات

أريد ان أنحف لدرجة أن يحمل جثتي طفل

دون العاشرة

ودون أن يشكو

كأنه يحمل دراجته على كتفه كي يصلحها.

 

أفكر بأنني حتى لو شبعت

ثم مت بعدها

سأكون أخف

سيتبخر الحزن واليأس والأسى

لأنهم لايموتون

وسيتبخر الماء النّزِق الذي يملؤني

لأنه يتوق إلى أمه السحابة

تلك التي تحوم دائما فوق رأسي

بعينين دامعتين

لتحرس ابنها.

 

أبحث هذه الأيام

عن مقبرة لشخص واحد

صعب جدا أن تجد مقبرة لامرأة دون عين فارغة للرجال

إذا لم أجدها

سأعتبرها غرفة للضيوف.

سأختار شخصين أو ثلاثة على الأكثر ليصطحبوني إلى قبري

ليسوا هم الأقرب إلي

لكنني واثقة أن بإمكانهم إسكات أصوات المقرئين المعوّجة فور إغلاق الباب عليّ

أنا أريد أن أخلو تماما إلى جسدي

وأشهد انفجاراته

أرى مكامن النشوة وهي تقبع في زواياه

مرتعبة من العادي وهو يهاجمها بضراوته

وأرى الألم يتربص بهما معا في عينيّ

ويشهدني عليهما

أنا أحب أفلام الرعب على أية حال

وأحب أن أشاهدها في غرفة مظلمة.

 

وحين ينتهي كل شئ

لاتفتحوا قبري

فقد ترون شبحا يعتلي هيكلا عظميا

ويضرب على مؤخرته

ويمنحه قطعة من السكر

ليجري كأي حصان في سباق الآخرة.

 

لكنكم لن تفعلوا هذا

ستنهمكون في قصائدي القديمة

وربما تقولون- مثلا- إن “إشارة مرور في آخر الليل”

قصيدة عظيمة

ستصبح قصائدي “عبقرية”! فور موتي

وستقتبسون منها

وتضعونها على خلفية أنيقة سوداء

وسأبتهج جدا وأصفق لكم  وأنظر إليكم في حنان

قبل أن أختفي للأبد.

 

سيكون عزائي حزينا

وستعتبرون أن موتي في الستين مفاجأة

تماما كما لو كنت مت في العشرين

لكنني لن أسمح لكم بإهانة أربعين عاما بينهما

لن أسمح لكم بإهانة حبي ورعدتي وفرحتي المجنونة وخفتي وأساي العميق

وعشرات القصائد التي كتبتها

وملايين الساعات التي مرقت من بين يدي

وتلك التي نامت آمنة إلى جوار عيني

كي أربت عليها بحنان قبل أن أنام.

 

لاسرادقات لابكاء لا تبادل لدعوات البقاء لا دعوات بالرحمة ولا المغفرة

تعلموا  “فن اللاشئ”

ولو مرة

مرة أخيرة من أجلي.

 

سأعد لكم  قبل موتي الطعام  والشراب

وسيأتي من غنوا معي في حياتي بأعوادهم وطبولهم

وسيغنون

وسترقصون

في بيتي

سيكون بيتي يتيما

وسيلتقطه الغرباء

ولن تجدوه كما كان مرة أخرى

أضيئوا كل غرفة فيه

وانتهكوه

انتهكوه تماما

انتهكوه بحب

كي يتقبل الحياة من بعدي.

 

لاشئ حزينا أو غريبا فيما أقوله

فأن تموت امرأة في الستين

شئ يحدث طوال الوقت

وأن تعيش امرأة  في الستين

شئ يحدث طوال الوقت

ولانبوءة أيضا

هي محض وصية

وصية

قد يكتبها، مراهق في العشرين

قبل أن ينتحر

مراهق غاضب بمشاعر عارية

لم يراكم حوله بعد

كل هذه الحقائب الفارغة

ولم يتعلم أن يدعي، مثلي،

بأنه يئن من حملها!

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!