إختناق/ بقلم محمد عبد الكريم الزيود

ينتصفُ العمر كهذا الليّل الثقيل ، ويُقرعُ جرس الثانية عشرة كمطرقةٍ في رأسي ، يجرفني سواده كبحر لزّج مملّ ، وحيدا أقاتل جيوش الملل ، تنفتحُ أبواب الهموم وتطير حولي ثم تبدأ بقرض ما تبقى من الذكريات العالقة .
أفتحُ النافذة لا هواء يدخل غرفتي ، يرفض ويتوقف على حافة الزجاج ، يتمّنع كدلال أنثى راغبة ، ثم أسحبُ نفساً من سيجارتي وأرتمي على سريري وحيدا كمقاتل مُنهك وكعاشق مخذول … !!!
أشعر بالإختناق وحيدا ، رغم هذا الهواء الذي يملىء السماء ويجر الغيم ، والغيم يرفع ثوبه حتى لا يلامس روؤس الشجر … أصحو من نومي فزعا ، وكأن شيئا يربض على صدري ، أحتاج مزيدا من الهواء ….!!
كنت طفلا أبحث دائما عن الهواء ، أفتح يدي كجناحي طائر وأمشي على طرف السور الحجري ، أقف على ساق واحدة وأطوي الأخرى كطائر أبو سعد ، وأغمض عيوني ثم أكتم الهواء بصدري ، وأتابع المسير بقدمي وكأني أمشي على حبل مشدود ، مثل ذاك المهرج في سيرك المدينة ، وكثيرا ما خذلني الهواء وأنا أجاهد محاولا التعلق به خشية السقوط ، حتى أقدامي تتبعان بعضهما ، وكثيرا أيضا ما أصطدمتا ببعضهما وأنا أظهر شجاعتي أمام أولاد القرية الذين راهنوا على سقوطي .
مرَ باص القرية وقد علا دخانه فوق الرؤوس ، لمحتها قبل الجميع ، تشبه “سارة ” ، إبتسمت لي وإلتصقت بزجاج النافذة ، الغبار تطاير من عجاج الطريق ، شعرت أني أطير بالهواء ، فقدت توازني ، حاولت الطيران لألحق بالباص ، لكن الأرض كانت أقرب لي ، سقطت على مؤخرتي فهي من تحتملني في الزّلات، نهضت وأنا أصطنع إبتسامة الإنتصار أمام الأولاد الذين غابوا بالضحك والشماتة ، المهم أنها شاهدتني وأنا أطير ….!!
كانت سارة تحلم بالطيران مثلي ، وكثيرا ما كانت تلاحق الفراشات ، وتركض وراء الغيمات ، في عينيها بريق يخطف قلوب الرجال ، لكن القرية إستيقظت ذات صباح على صراخ أمها ، كانوا يقولون أنها ماتت مخنوقة ..!!! وجدوها في إحدى مغارات القرية ، وإنطفئ ذاك البريق ..
يومها تذكرت أنها ماتت مثل ذاك القط الصغير الذي قلت لشقيقي الأكبر أنني إصطدته ، تبسم بخبث وطلب مني إحضاره ، لم أنم لأيام عندما شاهدت القط الصغير معلقا من رأسه مشنوقا على الشجرة ، أخي كان يضحك هو والأولاد ، لكنني بكيته كثيرا كما بكيت سارة ، الأثنان ماتا مخنوقين ..!!!
السماء واسعة هنا ، والمروج تموج بالسنابل ، لكن الهواء قليل ، ما زلت أشعر بالإختناق ، وما زلت أذكر سارة وقطي الصغير ، كان القليل من الهواء ربما يبقيهما على قيد الحياة ..!!

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!