ابتسام شاكوش. المارد. قصة قصيرة

 

آفاق حرة

 

المارد
قصة قصيرة
ابتسام شاكوش

لمحته يتقدم ببطء من شرفتي, يمشي رقصاً على ساق واحدة, ضحكت له, لوحت له بيدي أستعجله, فلا زاد في سرعته ولا أنقص, خفق قلبي بعنف, أعصابي كهربها الفرح, هتفت به: أأنت قادم من أجلي؟ ما أجاب, ظل يرقص بتؤدة, يدور حول نفسه متقدما مني.
وقفت أتأمله بخشوع, أنظر إلى جذعه المغزلي, أخاطب رأسه المتماهي مع زرقة السماء, خلته يبتسم لي من عليائه سعيداً بلقائي, ولكن, قبل وصوله إلى حدود القرية تلاشى, اختفى عن نظري لا أعلم كيف اختفى, رحت أبحث عنه في كل الجهات بلا جدوى.
ركضت إلى أبي أستوضحه, أجابني هذا تنين صحراوي, أغفلت كلام أبي, تركته يناقش أمور تجارته مع الرجال هنا, ورجعت إلى الشرفة أترقبه, أبي رجل بحري, لا خبرة لديه بما يهيم في الصحراء من الكائنات العاشقة, عالم أبي محصور بين أمواج البحر وغابات الزيتون التي ورثها عن أبيه, جل وقته الذي يرتاح فيه بين رحلة بحرية وأخرى يمضيه بين تلك الأشجار, يشذب هذه ويقلم تلك, يدور بينها كأنه أمير يتفقد محظياته, يتأملها واحدة واحدة, يغمرها بروحه كما يغمرها بالرذاذ الذي يوجهه إلى أغصانها وأوراقها من مضخات محمولة على جرر زراعي, يجلبها معه من البلاد البعيدة, ليحمي أشجاره من الحشرات والهوام المتطفلة.
توجهت إلى مضيفنا, والد الشرجال أصدقاء أبي, سألته عن كائن سحرني برشاقته, برقصته الوئيدة, بشفافيته وعرض منكبيه, بوجهه الذي ما تبينت ملامحه لبعد المسافة الفاصلة بيننا, أسرّ إليّ: كل ما تريدين معرفته عن الصحراء ستجدينه عندي, واضحاً بسيطا مفصلاً, اسأليني, لاتسألي أحدا غيري, سأغضب لو فعلت.
جلست قبالته أصفي لثرثرته, مركزة نظري في عينيه, بحرص تلميذة صغيرة تصغي إلى أستاذ عالم بكل شيء, أغرف منهما ما يروي شغفي, ويستفز الفرح الكامن بين ضلوعي, أخبرني أن ما رأيته هو المارد, استخفني الفرح وطار بي, حملني على ذراعي ذلك المارد, رفعني إلى حيث أعانق السحاب وأقطف الشهب, أصنع منها تاجاً أتزين به له, للمارد, عيناي تتنقلان بين عيني مضيفنا وحاجبيه الذين اسقر فوقهما ثلج السنين ببياضه الناصع, وبين وشفتيه المحترقتين من سيكارة مشتعلة لا تكاد تفارقهما, أستحثه على البوح بالمزيد, ثم أنفلت منه لأركض في لأفق المغبر, أبحث عن المارد, وما حضر.
صرت مشدودة إلى حكاياته, صوته الأجش ولثغته على بعض الحروف, أكرر وراءه الكلمات التي لثغ بها, فيضحك مشاركا اياي عبثي.
– أراك دائمة الجلوس على الشرفة
– أنتظر المارد
– إلى متى؟
– حتى يأتي, أمنحه عمري انتظاراً
– أنت حمقاء, هذا الكائن قوامه الغبار, لن تحيطي به مهما حاوت, لن تلمسه يدك
– بل سيأتي, وسيحملني إلى عليائه ونقاء روحه
– مجنونة أنت, تتكلمين عنه وكأنه من بني البشر, هذا غبار مسلوب الارادة, تركض به الريح وتمزقه العواصف, تحركه النسائم وتتحكم بخط سيره, وهو يمشي مستسلما لكل القوى, لا إحساس له ولا إرادة ولا شخصية مستقلة.
– لكني أعشقه
أمسك يدي بقبضتيه القويتين, هزني بعنف أخافني, انقلبت ملامحه اللطيفة في لحظة ورحت عيناه تقذفان بالشرر, كوحش أفلتت فريسته من بين براثنه, تراجعت باكية, خلصت يدي منه واستدرت هاربه منه.
– مالك بأحلامي؟ دعني لخيالي وجنوني, أنا مستمتعة بهذه الحالة
– أنت تعشقينني, لكنك لا تدركين, أو أنك لا تريدين الاعتراف
– أنت؟ أعشقك أنت؟ … صفعتني وقاحته
– أجل.. لماذا إذاً تتركين مجالس النساء لتنفردي بي هنا على الشرفة؟
– لأنهن نساء كبيرات ليس بينهن من تقاربني سناً, ولأعلم منك عن الصحراء والمارد القادم منها ما أجهله.
– هراء.. أنت تعشقينني.. اعترفي
انسحبت عن الشرفة أغالب دموعي, التفت لأصرخ في وجهه : أنت مخيف, أنا أكرهك, قبل فتح فمي رأيت المارد قادما من البعيد, وقد تخلى عن رقصته البطيئة وجاءني راكضاً, تدفعه الغيرة.
هتفت من أ‘ماقي تعال أيها المارد, الفح وجهي بلهيب غيرتك, اضرب من حولي حزاماً آمناً يقيني أمثال عواد هذا, أشرقت روحي بالفرح غدنوت من حافة الشرفة.
– عودتك تؤكد حبك لي
نظرت إليه شذرا ولم أعقب, تركته على الشرفة يصارع المارد الراقص في الفضاء الأصفر البرتقالي, دلفت إلى مجلس أبي, كان يتحدث عن انفراج أزمته المالية, فقد لاقى موسم الزيت رواجاً كبيراً, فرحت لفرحة أبي ونسيت كل شيء.
قبيل اصفرار الشمس للأصيل, داهم مجلسنا ظلام شفيف, اضطرب لحضوره كل من في ذلك البيت الكبير, عدت إلى الشرفة أستطلع, الأفق أمام نظري محتجب بضباب أصفر كثيف, هتف عواد: أسرعي بالدخول قبل وصول العجاج, تجاهلت تحذيره, استغنيت عن معلوماته.
– ما العجاج يا أبي؟ في بيئتنا الساحلية لم أسمع بشيء اسمه العجاج.
– هو في الصحراء كالنوء في البحر, ذاك يثير الأمواج وهذا يثير الغبار, كلاهما تحركه الرياح.
رجعت للشرفة أستقبل الكائن الغباري بملء حنجرتي ورئتي, كنت أخالني سأتوحد معه لنصنع المعجزات, أمواج الضباب الأصفر تتدفق ببطء لتصل إلى حيث أقف باستقبالها, أنا أحب الضباب, أراه في الصباح الباكر يغمر أودية قرية أبي, يملؤها بلبن أبيض, يغلف غابة الزيتون, أفتح له رئتي وإحساسي, أدخل في حالة من الخشوع إذ تحتجب المرئيات من حولي, أشعر بقرب من الله حين يلفني الضباب, كنت سأسأل أبي عن سر اللون البرتقالي في ضباب الصحراء, لكن عاصفة من العطاس داهمتني, فأخرست أسئلتي, انشغلت بنفسي, وانشغل كل من في البيت باتقاء الغبار, أضلاعي تحولت إلى قفص ضاق بمحتواه, أنفاسي تخرج حشرجة.
– سأموت يا أبي
– لن تموتي, هذا تأثير الغبار, أما زلت تحبين الغبار؟
مالهم بمشاعري وما أحب؟ لماذا يقيمون أنفسهم أوصياء على قلبي؟ نعم ما زلت أحب الغبار, أعشق المارد وأنتظر وصوله وأنا أتقلب على جمر الحمى التي باتت تكوي جسدي, ربة البيت شغلها أمري, باتت ليلتها رائحة غادية, تأتي بالمناديل المبللة, تغطي بها وجهي لتبرد حرارة الحمى ولتمنع رئتي من استقبال المزيد من الغبار, أضيق بالمناديل ذرعا فأنزعها عن وجهي, أرى بقعا من الطين في مكان أنفي وفمي, يعتريني الرعب فأستنجد:
– أنا أموت يا أبي
– الغبار لا يميت أحدا, لا تخافي
هطل المطر غزيرا في نهاية تلك الليلة, غسل كل شيء فسارعت النساء إلى تنظيف آثاره, وبقي أبي ساهرا قرب فراشي, يرقبني حزينا وأنا أرتعش من الحمى, جاء عواد بالبشارة, هيا انهضي, انقشع الغبار وما طلعت الشمس بعد, تعالي لتشاهدي الفجر.

تحاملت على نفسي, حملت دثار إلى الشرفة, كانت الأرض مشرقة بنور ربها, نجمة الصبح تومض بصفاء غريب, بعدما غسل المطر ما أحاط بها من الكدر, زرقة الفجر النقي تبوح بما في الصحراء من أبراج معدنية, تتواصل فيما بينها بأسلاك الكهرباء, المضخات المنصوبة فوق آبار البترول تواصل الركوع والسجود, لحق بي عواد, فرش عباءته على كتفي بحنان, التفت إليه أسأله عن البترول ومصير البترول, تجاهل سؤالي وقال: هذا هو الغبار الذي تبحثين عنه, انظري تحت قدميك, نظرت بخجل, أرض الشرفة مغطاة بطبقة ثخينة من الطين, هتفت:
– الطين, إنه بداية الخلق ومادة التكوين
– بداية الخلق هذا صحيح, لكن ما ترينه هو الوحل, ما كان الوحل بداية لشيء أبدا.
نظرت إلى أعماقي, رأيت المارد يتقهقر منهزماً, أمام أشجار الزيتون, وفرحة أبي بشفائي, وبموسمه الخير, وبقي عواد حقيقة ثابتة, بغترته وعقاله, بعباءته ولثغته المحببة, تركني الجميع لخيالاتي, وتجمعوا أمام شاشة التلفاز, يشربون قهوة الصباح, ويتابعون ما استجد من أخبار في تلك الليلة العاصفة.

عن محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!