الصّـــــرير / بقلم الروائي توفيق أحمد جاد

..

 

مشى ببطء وحذر..، ثم انتبه، وسأل نفسه عن سبب تباطئه  توقف لبرهة، ثم مشى بخطواتٍ أسرع دون أن يُجيب على سؤاله لنفسه، دار حول منزله محاولا تحديد جهة الصوت.رغم صفاء ليالي الصيف ونسائمها الباردة التي تأتي في مثل هذا الوقت.. إلاّ أنّ الظلمة الحالكة تفسد أي متعة.. بدا له وكأنه يلتفّ حول نفسه.. ربما تشابه الأمكنة.. وربما هي العتمة تجعل الأمكنة متشابهة.. قال في نفسه.

شَعَر وكأنّ الأرض طينيّة تمنعه من تتبّع أثر المخلوق الّذي يصدر صوت صرير مزعج يمنعه من أن يغفو.. يمنعه من التفكير بهدوء.. يمنعه من ترتيب الماضي.. الذي ينفلت على ذاكرته بصور مختلطة ومتداخلة.. نظر إلى السّماء.. كان القمر محاقاً.. وهو الذي يشكو من تعب بصره حتّى في النهار!.

لم يمنعه ضعف بصره والظلام الدّامس من التراجع والعودة إلى البيت.. بل زاد إصراراً على أن يظفَر بمن يتسبب كلّ ليلة بإزعاجه ومنعه من التّمتّع بأي شيء.. حتّى النوم!، وطاف من جديد بالمكان.. يصارع العتمتين.. عتمة الّليل.. وعتمة بصره.. وما تعانيه عينيه، بدأت أنفاسه تتسارع، وكأنّها في سباق مع نبضه المتسارع.. وكان كلّما شَعَر بالتّعب.. شعر أنّ ساقيه تنطلقا أكثر وأكثر وتزداد سرعته.. تذكّر حين كان يركض في ذات البيدر ليلا ووالده يلحق به..

” لم أكن أترك له فرصة للامساك بي حتّى أصل أكوام القشّ والسنابل.. وهناك.. كنتُ كما الفأر أدخُل جحري الذي أعددته قبل أن تغيب الشّمس.. كان يتوعّدني.. ثمّ يعود مُقسما أنّه لن يؤذيني إن خرجت.. ثم يقسم أنّه سيشتري لي الحلوى.. ينتظر قليلا.. ثم يقسم أنّه لا يستطيع النّوم إن لم أكن بين يديه أو أمام عينيه.. وذات شقاوةٍ واختباء كنتُ أشعر بغصّة في جوفه.. كانت تُصدر صوتًا غريبًا.. فخرجتُ مذعورًا.. ولا أدري سبب ذعري وصراخي وألقيتُ بنفسي إليه وصرخت.. بل كان بكائي هو الذي يزيد من صراخي! حضنني.. ومرات قبّلني”.. لكن.. انتظر.. ذلك الصوت بم يذكّرك!؟.. ثمّ ألا تتذكّر فعلا سبب ذُعرك؟.. ربّما كان الصّوت!.. تعثّرت قدمه بحجرٍ صغير.. كاد أن يُسقطه.

مدّ يديه للفراغ.. لم يجد شيئا يُمسك به.. لكنّه استعاد توازنه وهو يقول “نعم.. الصّوت”.. الصّووو..، وارتفع شيء ما من أمامه بسرعة البرق.

كاد أن يسقط مرّة أخرى.. كان يلهث.. وهو يستدرك أنّ هذا صوت رفرفة أجنحةٍ ما، وماذا سيكون! لا بدّ وأنّه خفّاش الّليل.. فهو يسكن هنا منذ زمن بعيد..شعر بتعبٍ شديد، بينما قلبه كان يخفق كقلب طفل ملأه الخوف والقلق.. عاد باتّجاه البيت، وما هي إلّا خطوات – وكان يتلمس جدران بيته -.. وصل إلى غرفته الّتي أحبّها.. وكم أحبّ زوجته الّتي فاجأته بالسّؤال: “ما بك يا غالي؟”

قال – وهو ينظر إلى الفانوس المعلّق – : كدتُ أسقط من ضعف بصري، ومنذ لحظات.. أرعبني خفاش أحمق ملعون، طار من أمامي.

قالت: ألم أقل لك بأن تنتظر وألّا تخرج في هذا الظلام الحالك؟!

قال: لقد أزعجني الصّرير وأقلقني.. وها هو يُعاود إطلاق ذات الصوت.. هل تسمعينه؟.

قالت: سيعود ابنك محمد بعد قليل، وهو سيتكفل بهذا الصّرير.. سأعدّ لك كأسًا من الشاي بالنعناع لتهدأ أعصابك.

قال: يسعدني ذلك.. لقد أرعبني ذلك الخفاش اللعين

قالت: ما بكَ يا رجل.. أتخاف من خفاش !؟.

قال: صُبّي يا امرأة.. أنا لا أخاف شيء, وأنت تعرفين ذلك جيدا. لكنّه فاجأني وهو يرفرف بالعتمة, وأنا أسمع صوتًا ولا أرى شيئا.

قالت: وها أنت قلتها.. (تعيش وتأكل غيرها).

قال: أتسخرين مني!.. هل تريدينني أن أتزوج بأخرى لتتأكدي أنني ما زلت قويًا ولا أخاف شيئا؟.

قالت: هيه يا أبا محمد .. لقد فات أوان ذلك.. ورجاؤنا حُسن الختام.

اكتفى بابتسامة.. ثم قال: نعم.. سقا الله أيام الشباب!

قالت: لكلّ زمان دولة ورجال! ألم تردّد هذه الجملة أنت حتى حفظتُها أنا؟ والآن ندرك معناها معًا.. الآن دَور غيرنا في الحياة.

قال: ماذا حل بالشاي؟.. وانتبَه إلى ابنه محمد يدخل مبتسمًا.. تبدو على وجهه ملامح السرور .

بادره بالسؤال: ألا تسمع صوت الصرير؟.. ولا أريدكَ أن تقول لي أنه سيذهب وحده.. إنه يزعجني ويثير القلق في نفسي..، فأعدَمُ النومَ حتى الصباح.. ألا تسمعُهُ يا بني؟.

قال محمد: حسنًا يا والدي، سأخرجُ بعد تناول الشاي معك.. ولن أعود إلاّ إذا أمسكت به.. أو أطارده حتى يرحل من هنا وإلى الأبد.. أيضا أريد أن أخبرك بأمر طيّب، فما هي البِشارة؟

قال: قل ما عندكَ يا بني.

قال: أخيرًا توصلتُ ومعي صديقي يونس من تحصيل تأشيرة  الموافقة على السفر.. وقد أتممنا كل الإجراءات، والحمد لله يا أبي.. لم يتبقّ إلا دعاؤكما

قال: وكيف تجرؤ! .. كيف طاب لك أن تفعل ذلك!..، ومن لنا من بعد رحيلك؟.. ألا ترى حالنا أنا وأمك..؟

قال محمد: أبي يجب أن لا تحرمني هذه الفرصة.. وأن تمنحني الإذن بالسفر.. أبي.. انظر إلى حالي وحالنا.. نحن نحتاج إلى المال.. فالدخل هنا يكاد يكونُ معدومًا، ونحن لا ندري أنّ ما أجنيه من عملي.. أيكون للبيت أو لسداد الديون المتراكمة..؟ أبي أرجوكَ أن تمنحني فرصة لأجرّب.

صاح (أبو محمد) بزوجته، وقال: جهزي فراشي.. ولا أريد الشاي.. النوم وكوابيسه أرحم من هذا الذي أسمعه.

دخل غرفته.. وسرعان ما غطّ بنوم عميق وارتفع شخيرُه .. نظرت الأم إلى ابنها نظرة سريعة معاتبة ولحقت به.

جلس محمد يملأه الهم والحزن.. سمع صراخ والده -المعتاد- كلما نامت عينه.. أيُّ كوابيس لعينة تغزوه حين يغفو!

انتبه محمد إلى الهدوء الذي عمّ الليل في الخارج.. نام أبو محمد.. وزوجته نامت.. وانتهى محمد من ترتيب حقيبته.. وهمّ بالخروج.. لكنه توقف، وعاد ليُلقي نظرة أخيرة إلى والديه.. كانا يغطّان بنوم عميق.. وقف على باب البيت.. ومع أول خطوة.. أوقَفه سؤال وكأنه شيئا قاسيًا ارتطم برأسه.. للمرة الأولى يجده سؤالا لا بد وله من إجابة.. أين الصرير..؟ أين الصرير..؟ أين الصرير..؟ ظلّ يمشي ويسأل حتى سمع صوت الصرير بوضوح.. هناك بدأ يلهث ثم غاب في العتمة.

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!