القَادِم/ بقلم الشاعر مظهر عاصف

ما أن دخلتُ حتى ضحكتُ بكلِّ ما أوتيتُ من حزنٍ, حيثُ لم أعد أعرف إن كنتُ مَن دخلَ (الخمَّارةَ) أم (مهران)…حككت رأسي كالأبله لحظةَ تأكدي أنني لم أعد أعرف رأسي من قدميه, أو رأسهُ من قدمي. قد يبدو هذا مزعجًا بل هو مزعجٌ حقًا, لكنه ليس أكثر إزعاجًا مما حدثتُ به نفسي يومًا لتنقلبَ حياتي بعدها دون أن أدري رأسًا على عقب : “إنهُ مختلف….كيف….ولماذا؟! … لا أعرف ”
استحضرتُ مباشرةً صورةَ وجههِ من ذاكرتي الحديثة …
صورةً لم أعرْها اهتمامًا أثناء مروره السريع مِن أمامنا متزامنةً مع إيقاعِ صوتِ صديقي الذي أشارَ نحوه بحماسةٍ بلهاء, أو لعلني ظننتها آنذاك بلهاء: “هذا هو .. أنظر.. أنه هو …هو بعينه” .
ثم باندفاع مبالغٍ فيه وقد تشبث بكتفيَّ راح يصفُه بمتعة غريبة وسعادةٍ غامرة:
” واحدة من اثنتين: إمَّا أن يكونَ من عليةِ القوم, أو أن جهةً عظمى تقفُ خلفه لا محالة !! بالتأكيد لن تصدقني فأنتَ لم تشاهد كيف تحدثَ حينها, ولم تشاهد ما شاهدناه من تصرفاتهِ الغريبة”.
لقد شاهدوا مُذنبًا كاد أن يضعَ القاضي الماثلِ أمامه في السجنِ, بعد وصلةٍ خطابية تناول فيها ما لذَّ له وطابَ من حكمِ ومواعظِ العرب. وبعدَ أن صدَّقوا ما جاء به وكذبوا (الكاميرا) التي أحالها القاضي فورًا للتقاعدِ رغم أن فترة عملها الميدانية لم تتجاوز الشهر, قبَّل القاضي رأسَه واعتذر له عن ازعاجه, ورافقه إلى خارج المحكمة احترامًا له .
– {و} مختلف.. أنه رجلٌ مختلف.
– (م) قلتَ هذا في المرة الأولى؟
– {و} كلا.. كانت هذه في الثانية .
فقد انقادَ الجميعُ له عندما ألقى جملةً قصيرةً تلقَّفت قلوبهم وعقولَهم, ليقودَهم نحو مكتب الوزير الذي أقسمَ عليه أن يهدأ قاطعًا له الوعودَ بتحسينِ دور الوزارة ومضاعفة جهدها في خدمة مواطني الجهورية مهما كلفه الأمر ..
لم تنفرج أساريرُ وجهه إلا بعد أن خرجَ آخرُ مواطنٍ راضيًا عن الخدمة التي قُدمت له. أما أنا فتبعتُ (مهرانَ) دونَ أن يشعر إلى حيث لا أدري مصابًا بالذهول بعدما توقف أمامَ ( خمَّارةٍ) لم يتردد بالدخول إليها وقضاءِ نصف ساعةٍ داخلها قبل أن
يخرجَ وصاحبَ (الخمارة) ويسيران بين أزقةِ المدينة قاصدين مسجدها..
– (م) المسجد؟
– {و} بل ورأيتُ بأمِّ عيني صاحبَ الخمارة راكعًا ساجدًا بجانِبكَ والخشوعُ يتقاطرُ هالتهِ كما يتقاطرُ ماءُ الوضوء من جبهته .
أمَّا “بسطات” الخضارِ والاكسسورات وغيرها التي احتلت نصفَ الشارع فما أن رأى أصحابُها (مهران) مُقبِلًا من بعيد حتى حاصوا حيصةَ حُمر الوحشِ, وسارعوا بحملها للمحال التجارية أو لأماكنَ لا تعيقُ حركة السير خلال دقائقَ معدودة.
– [ص] هو مَن قال لي بأن (مهران) جذبَ الرجلينَ من قميصهما آمرًا العائلتين اللتين استعدتا للشجار بالمصالحةِ وتقبيل الرؤوس بدل الأيادي التي كانت على وشك الاشتباك, حتى أن أحد المسنين حاولَ تقبيلَ يده قبل أن يسحبها رافضًا هذا التصرف منه.
– (م) تقبيل يدي؟
[ص] ولو لم تمنعْهُ لقبَّل الجميعُ يدَك حينها لا المسن فقط…هكذا أخبرني .
– (م) حدث هذا أثناء ملاحقته لي؟
– [ص] نعم.
للحصول على الإجابة عليك أن تسأل, وعن الحقيقة عليك أن تبحث, ولكنني أجد نفسي الآن أضعُ الجواب كي أُسأل, وأستحضرُ الخيال كي أعرف الحقيقة. هذا وعليك في بعض الأحيان أن تتجاهل مفهوم “الزمن” في النصوص التي تقرؤُها أو الأحاديث التي تسمعها حتى لا تتوه وتتداخل لديك الأحداث والشخصيات, أما الحوارات فصدقني أنه ليس من الضروري أن تكونَ منظمة ومتتالية فقد نبدأ من المنتصف وننتهي من البداية, فإن أردت الوقوفَ على حقائقِ الأشياء فعد للبداية فقط. المهم هي الفكرة, والفكرة قد نتناولها من السطور بسهولة, ومن الحديث بسلاسة إن تركنا التعقيد ونظرنا إلى الأمر بعينٍ شمولية لا مقلِّدة لما اعتادت أن تقرأه وتراه . فكثيرًا ما يكون حديثنا للغير إن طرحَنا المنطق جانبًا أقرب للخزعبلات منه إلى الحديث الموضوعي الحامل لفكرةٍ ما و هدفٍ منشود. ثم إن هناك نقطة قد تتساءل لماذا أثرتُها لكنها في الحقيقةِ من تُساعدك على حل المعضلة وهي : أن الشخصَ الذي تبحث عنه ولا تجده قد يكون أنا .
– [ص] صديقك ماسوني لا محالة
– {و} ظننتُ هذا بادئ الأمر ثم تيقنتُ ببراءته من هذا
– [ص] مخابرات؟
– {و} لا..
-[ص] عميل
– {و} لا
بدت كلُّ لاءٍ سوطًا جديدًا يضافُ للسياطِ التي تجلد فضولي يومًا بعد يومٍ مع (مهران), بينما اكتظَّ دفترُ مذكراتي يومًا بعد يوم بقصص ألف ليلةٍ وليلة , حيث لم يخلُ يومٌ خلال شهرين متتابعين من قصةٍ أو موقفٍ غريب بطله هذا الرجل الذي لم أعد أقوى مفارقته مذ التقيته.
– (م) هذا دفتر مذكراتك؟!
– {و} لم يغادر حركةً منكَ وإلا ووصفَها؟
– (م) هذا واضح
– {و} لا بد أنك مشعوذ.. قل لي هل تتعامل مع الجان ؟
– (م) بقي أن تتهمني بأنني ( تبريزي) هذ العصر؟
لو كان باستطاعتي سماع أحاديثه الجانبية والسرية مع الناس الذين أصرَّ على مناجاتهم لوحده دوني “لتبرزتُهُ” رغمًا عنه لا سيما وأنني الشاهدُ على وجههِ الطلق ومحيياه المبتسم أثناء تبادلهِ الحديث الهادئ الناعم مع السكارى والراقصات وأصحاب السوابق…. الأسلوب ذاته أيضًا اتبعَهُ مع رجال الدين, وطلَّاب العلم, ووجهاء المَدنيَّة.
– = الأستاذ مهران موجود؟
حككت رأسي لأنني في الحقيقة لم أعد أعرف رأسي من قدميه, أو رأسهُ من قدمي ثم ضحكت قائلًا: أستاذ.. سيد.. مشعوذ.. ساحر.. بطيخ.. لا أعرف.
– == موجود؟
– {و} نعم موجود
– = السيدة (نيران) تريد مقابلته فهل يسمح …
قاطَعَه صوتٌ من بعيد: نقابلُها بالطبع .. أهلا بها.
لم أصدق عيني وأنا أرى كاسة الشاي في يد ممثلةُ الإغراء الأولى في العالم وقد جلست في بيت ( مهران)؛ فقد كنتُ أظن أن نوعية هؤلاء البشر لا يشربون الشاي مثلنا, سيما أن رائحة العطر التي لم تفارق أنفي لما يقارب الشهر ذكرتني على الدوام بأنها تختلف بالكامل عن النساء اللائي نقابلهن في محطاتِ حياتنا البائسة.
– (م) وما الذي جعلك تفكر بهذه الطريقة؟
– {و} أشعر بأنهم مختلفون عنَّا
– (م) عن البسطاء تقصد؟
– {و} حتى المشاهير فهناك من تشعر بأنه قريب منك
– (م) صحيح…
– {و} لماذا؟
– (م) لأنك أردت أن تراهم بهذه الطريقة.
– {و} كلا .. إنَّهم يضيئون في الليلةِ الظلماء
– (م) عيناك مَن صدَّقت وهمَ الضوء ذاك فأشهرُهن من قالت يومًا : لم أكن سوى مرحاضًا للرجال لتغريغِ شهواتهم مقابلَ الشهرة اللعينة التي تحصَّلتُ عليها.
وضَّحَت بعد مقدمةٍ طويلة أن أحد اصدقائها نصَحها باللجوء إليه بعد تعرضها لعملية نصبٍ على يدِ منتج فيلمها الأخير والذي اشترط عليها المال مقابل الجسد إن أصرَّت على أتعابها ولا بد.
كالفأر بحضرة الهر الذي حاكى بانتفاخهِ صولة الاسد وقف المنتج بين يديه معتذرًا عما بدر منه, مقدمًا له شيكًا بالمبلغ كاملًا بينما غزت الحيرةُ وجهَ السكرتير على دفعات والذي كلما دخل وخرج من عندهما ضرب كفَّيه ووضعهما على رأسه محدقًا بي هامسًا : ” خمسة أعوام بالتمام والكمال ولم أرَ مُعلمي بهذا الضعف واللطف الطفولي.. مَن هذا الرجل يا رجل أخبرني؟ قل لي : هل هو من رجالات الدولة الكبار؟ كلا لا أظن فهيئته لا توحي بذلك !!”
هذا الرجل بعد أن استلمَ المبلغ من (نيران) اصطحبني معه لتوزيع المالِ على من هبَّ ودب, وظلَّ ينفق مما أعطته وينفق حتى أجهز عليه وعلى البركة التي حلَّت به..
– [ص] لا تقل لي أنه تصدَّق على السكارى ببعضه
– {و} والمومسات أيضًا
– [ص] ألأن مصدر المال مشبوه فعل ذلك؟
– {و} لا ففي كل المرات التي تحصَّل فيها على مالٍ فعل هذا
– [ص] أحقًا أعطته المبلغ كاملًا؟
– {و} بل وزادت عليه ؟
تصدرت صورة (نيران) بثياب الإحرام نشرات الأخبار المهمة وصفحات الجرائد الأولى وقد أحاطت بها _أي الصورة_ مجموعة من الاسئلة حول الانقلاب الأخلاقي الديني المفاجئ لهذه الممثلة الجريئة.
– (م) هل هي فعلا كما يصفونها؟
– {و} وأكثر.. إن لها بعض المشاهد.
– (م) لا تكمل.. يكفي .. هذه الكنيسة تحفة معمارية… تعال لنراها من الداخل .
لو لم أكن أعرفه لظننتهُ مجنونًا قبلها بعد الساعتين اللتين أهدرهما مع أحد أشهر مجانين مدينتنا فورَ خروجنا من الكنيسة؛ وقد جلسا وتحدثا كصديقين بانسجامٍ غريب بعد أن أمرني بالابتعاد عنهما رغم أن رائحةَ المجنون وشكلهِ المقزز كفيلان بابتعادي عنهما مسافةً اللا نداء.
– [ ص] هل زاركَ مجنونان هنا يومًا, أو شاهدت اثنينِ منهما يتحدثان مع بعضهما ؟
– (و) لا.. وأستبعد أن يحدث هذا
– [ص] وماذا إن حدث؟
– ( و) أعتقد أنهما سيتكلمان بلغةٍ لا يفهمها العقلاء
– [ص] وقد نكون نحن المجانين من وجهةِ نظرهم
– (و) وهل هناك عاقلٌ يفسدُ فيها ويسفك الدماء؟
– [ ص] إذن لن نفهمَ لغةً غير لغتنا
أما حمار (بشار بن برد) فقد أنشده في المنامِ بعد موته قصيدةً تغزلَ فيها بأتان ( (الأصبهاني) شاكيًا له بأنه مات كمدًا بسببها . فقال :
سيِّــدي مَــل بعَناني *** نحوَ بابِ الأصْبَهــــانــــــي
إنَّ بـالبــابِ أَتانـــــاً *** فضلـــت كـــــلَّ أتـــــــــانِ
تيَّمتنــي يـومَ رِحــنْــا*** بثنـــايـــاهَـــا الحِـــســـانِ
وبغنــــــــــــج ودلالٍ *** ســلَّ جسمِـــي وبــرانِـــــي
ولَهَــا خـــــدٌّ أَسيــــلُ * * مثـــل خــــدِّ الشيفـــــرانِ
فبهـــا مِــتَ وَلَــو عِشــتُ * * إذاً طــال هـــوانِـــي !
– [ص] قد ذكرَ الشيفران في قصيدته فما هو هذا؟
– ( و) قال لهم بعد أن سألوه نفس سؤالك :أن الشيفران كلمةٌ من لغةِ الحمير التي يجهلها فإن أرادوا معرفتها فعليهم سؤال أحد الحمير عنها .
حينما ودَّع الكاهنَ وَصفْتُهُ بما أغضبَه دونَ قصد, فراحَ يشتمُ “التبريزي” ويشتم أمي التي أنجبت مُشوَّشًا مثلي على زعمه, ثم حذرني من الكلامِ لنتوجه بعد حديثه مع المجنونِ لتناول طعام الغداء في مطعمنا المفضل غيرَ أن أصوات الاستغاثة والصراخ التهمت اسماعنا قبل التهامنا الطعام.
– (م) أتركه.
– == !!
– (م) قلت اتركه. { قالها بلهجته الغاضبة الحادة}.

كان عليه أن يقول : اتركوهم فلم يكن رجلًا واحدًا بل عصابة ضلَّت طريقها فأرادت فرضَ سيطرتها على المكان والطعام والأنام, لكنها المرة الأولى التي أرى فيها من لا يهاب (مهران). إذ هجمَ عليه أضخمُهم بينما تناهى لمسامعي قول العجوز المستجيرة بالطاولةِ خوفًا منهم : ” وماذا سيفعل هذا القصير البطين مع هؤلاء الجبابرة؟”
– [ص] أكان بطينًا قصيرًا ؟
– {و} وأصلعًا وذا بشرةٍ داكنة مليئة بالبثور؟
– [ص] ؟؟
– {و} صوته كان مزعجًا حد الغرابة .
ثلاث دقائق بدت كافية أن يجلسوا أمامه كأطفالٍ تجهزوا لتوبيخِ أمهم بعد أن نالوا من الصفعات والركلات منه ما نالوا. أحدهم راح ينتحب على صدره نادمًا على ما اقترفت يداه شاتمًا أضخمَهم بأنه من كان سببًا بتحوله للإجرام.
– (م) في هذه الصفحة ذكرْتَ أنه قابل رئيس الجمهورية وانتقده بشكلٍ لاذع
– {و} كم أكره هذا .. عدتَ لتتكلم بضمير الغائب!!
– (م) أعتذر… ذكرتَ بأنني قابلتُ رئيسَ الجمهورية والخ الخ الخ
المرأةُ مَن كانت سببًا بهذا بعد أن حاول المشفى طردها بعد أن تبينَ لهم أنها وزوجها لا يحملان المال الكافي لأتعابِ العملية. وكالعادة ما أن صاحَ بالأطباء والمحاسبين حتى سارع الطبيب قبل الممرض بنقلها لغرفة العمليات.
– [ص] هل أسموه “مهران”
– {و} أنجبت فتاة ومع ذلك أسموها “مهرانة”
– [ص] لو كنتُ مكانهم لفعلتُ الشيء ذاته
– {و} الطفل الذي أنقذه من الغرق, والعجوز التي أعادها لبيتها معززة مكرمة بعد أن عقَّها أبناؤها, وبائع الفول الذي أخرجه من السجن, والشاب الوحيد الذي استرد له ميراثه مِن أعمامه, والفلاحُ الذي أعاد لها أرضه من براثن جاره مسؤول الدولة؛ ذهبوا جميعهم ينصحون الآخرين بتمسية المواليد باسمهِ تيمنًا به .

العذرُ منكَ على الحالاتِ مقبولُ … وَالعَتبُ مِنكَ على العِلاّتِ محْمولُ
لوْلا اشْتِيَاقيَ لمْ أقْلَقْ لِبُعْدِكُمُ….. … وَلا غَدَا في زَمَاني، بَعدكم، طولُ
وَكُلّ مُنْتَظَرٍ، إلاّكَ، مُحْتَقَرٌ…….. و كلُّ شيءٍ ، سوى لقياكَ ، مملولُ
ما أن سمِعهَا حتى جلسَ بجانبه مبتسمًا راقًّا بحاله, وإذ تفاجئ به راح واضعًا يده على قلبه قائلًا: رغم أن قائلها ليس بعاشقٍ لكنني أرى العشقَ يا مسكين قد بلغَ في قلبك مبلغَه
– [ص] وزوَّجه إياها!
– {و} وحلَّف والدُها بالطلاق أن يتكفلَ بمهر ابنته إكرامًا ( لمهران)
– [ص] هذا الجلمود الذي لم يلن ويرحم قلبيهما لخمس سنوات عجافٍ فعلَ هذا ؟
رغم وابل الأدعية والمديح التي أطلقتها أسرَّةُ المرضى لا سيما تلك المرأة النفاس وزوجها إلا أنه لم يبتسم بل طلب مني القيادة بأقصى سرعة نحو (القصر) متمتمًا بكلماتٍ ظننتها للوهلةِ الأولى أنها الطلاسم التي تساعده لا محالة على قدراته العجيبة لولا بعض الشتائم الوقحةِ التي تسربت من صوته الخفيض فعرفتُ حينها أنني أبعدت النجع كثيرًا ..
– (م) قل له ( مهران) يريد مقابلتك فورًا ولا تثر غضبي ..
رأيتُ جميع الألوان التي في الكون لحظتها على وجوه الحرس, بل وسمعتُ دقاتِ قلوبهم بشكل أوضح بكثيرٍ من همساتهم التي أزَّت بشكلٍ متصاعد قبل أن يقطعها صوتُ عجلاتِ السيارةِ التي أقلَّتنا إلى حيث وجدنا ( الرئيس) واقفًا بانتظارنا.
– [ص] لا تقل بأنهم فرشوا له السجاد الأحمر
– {و} لا, لكنه استقبله استقبال الملوك والفاتحين
– [ص] هذا من أصحاب الخطوة لا محالة
– { و} سيغضب وبشدة لو سمعها منك, فإياك أن تذكر ذلك حينما تراه بل تعامل معه بشكلٍ طبيعي خاصة وأنها المرة الأولى التي ستقابلهُ فيها
– [ ص] كم أتشوق لهذا حقيقة.. أخيرًا سأشاهده
– {و} نهرَ أحدهُم يومًا قائًلًا: أنا لست خنثى ولا خصيَّا فأنا أشتهي النساء وأعشق جسدهن, ثم إنه من المحالِ أن أرقص وأبدأ بالدوران كالمجانين وأنفض جسدي كالمجاذيب باسم الدين .
ساعةٌ أو ربما أكثر هي المدة التي استمع فيها (الرئيس) له طالبًا من مساعديه بين الفينة والفينة تسجيل بعض الملاحظات باهتمام بالغ, بينما ارتعدت أوصالي حينها من الهالة التي أحاطت (بالرئيس) ومعاونيه لا سيما وأن نَعلي الذي لا يساوي عشرة دنانير داسَ وبكل وقاحة ذلك السجاد الفارسي الفاخر كما يدوس رصيفَ حارتنا الحقير؛ بيد أن (مهران) مذ جلسَ وغادر ولهجته لم تتغير, ولم تذب من على لسانه ثقته المعتادة بل أخاله شحذ لسانه واستله هذه المرة بشكل مختلف.
– [ص] لم تحلم أن تلتقي به يومًا
– {و} (نيكول كيدمان) أقرب لحلمنا من هذا المحال
– [ص] في هذه الصفحة ذكرت أن الرئيس سألَ عن اسمك
– {و} وضحِك حتى بانت نواجذه حين عرف أن اسمي ( واثق)
الاسم بالتأكيد ليس مضحكًا, ولا أظنه من غريب الأسماء التي أدهشت الرئيس, مع أننا لم نفهم يومًا ما الذي يضحك الرؤساء ويغضبهم, وما الحدث الذي يثيرهم أو يخمد عواطفهم, فالشاشات من أكثر الأشياء التي تنقل الأكاذيب صوتًا وصورةً.
– [ص] الحقيقة أن هذا _ ولا أدري لماذا_ يذكرني بقصةٍ “صاحب الشرطة والكاهن والقاضي” بعد أن أفنوا شبابهم لإصلاح مجتمع المدينة الذي انتشر فيه الفساد بجميع أشكاله.
– (م) أما صاحب الشرطة فوظيفته القبض على الأشرار وتقديمهم للعدالة
– [ص] أوَ تعرفُ القصة أيضًا!!
– (م) بالتأكيد فالكاهنُ كرَّس حياته للتبشير ودعوة الناس للتحلي بمكارم الأخلاق والتراحمِ فيما بينهم.
– [ص] نعم والقاضي جلسَ للقضاء ليحكم بين الناس بالعدل ناصرًا المظلوم معاقبًا الظالم رادًّا الحقوق إلى أهلها..
– (م) يبدو أن ( مهران) آخر زارهم في ذلك الوقت فتأثرت به المدينة بأكملها
– [ص] وانتشرت الفضيلة
– (م) وعم الأمن والأمان في أرجائها, والتزم الناس بالفضيلة
– [ص] أظنه استغرقَ سنة واحدةً للقيام بهذه المعجزة ؟
– (م) بل أقل .. لكنهم _ أي الثلاثة_ قاموا بطرده بعد أن هددوه بالقتل ما وإن جنَّ وعاد مجددًا للمدينة, في الوقت الذي أوعز فيه صاحب الشرطة لأحدهم بإحضار راقصةٍ هيفاء غيداء مصقول عوارضها لإحياء ليالٍ حمراء في وسط المدينة .
– [ص] الفساد يبدأ بنظرة
– (م) بالطبع انتشر الفساد مرةً أخرى في تلك المدينة ليعود صاحب الشرطة ويلاحق الأشرار وويقدمهم للعدالة, بينما راح القاضي يحكم بالعدل تاركًا للكاهن دوره بالتبشير ودعوة الناس مجددًا لمكارم الأخلاق والتراحم فيما بينهم.
هل قتلوه؟ أين صديقي ( مهران) .. الأرض لا تبتلعُ الأشخاص فجأةً بل تأكلهم ببطْءٍ شديد, أما هو فعليها أن تضعَ علامةً ترشدُ الناس على مكانه إن قامت بهذه الخطيئة والتهمته. لكنني لن أستطيع تقبل هذا فكيف لي أن أحيا بدونه , ثم كيف سيكون شكل الشوارع والأماكن إن لم يعد ؟.
– [ص] ألا زلت بانتظاره؟
– {و} لا تقل لي عد لحياتك .. لا أستطيع .
– [ ص] شهران وثلاثة أيام ولا زلت …
– { و} لا تكمل .. مهران سيعود
– [ ص] قلتَ لي إنه قالَ لي يومًا: أحدهم انتظرَ حبيبته طويلًا ولكن النادل بعد الفنجان العاشر طلب إليه أن يرحل كي يغلقَ مقهاه.
– {و} قل لي أنها عادت
– [ ص] قد نتأخر نصف ساعة. ساعة. ساعتين. ولكن علينا أن ندرك بعد ذلك أن الغائب لن يأتي.
– {و} سيأتي
– [ص] أوافقك إن كان الغائب يعيش في داخلنا فقط وينتظر لحظة البعث.
– {و} سأنتظره.. لن يكون ( هاشتيكو) أوفى لصاحبه مني .
– [ ص] لكن صاحبه لم يعد..
لم يمت لكنه لم يعد بعد, بيد أن الذي يغيظني قبل أن يحيرني هو كيف استطاع الناس نسيانه بسهولة, بل لسببٍ أجهلهُ راح الجميع يتنصل من معرفته. البارحة دخلتُ الخمارة فطردني صاحبها متهمنَي بالجنون. أنكرَ كلَّ شيء حتى صلاته اليتيمة.
والبارحةُ أيضًا رأيتُ صورةً كبيرةً ل (نيران) بملابس السياحة على غلافِ مجلة ما.
لا أدري كيف عاد الأشخاص بهذه السهولةِ إلى ما كانوا عليه, ولا أدري لماذا أنكرَ الجميع معرفتهم بمهران فجأة.
– [ص] صاحبة الشقة تقول أنها لم تعرف يومًا مستأجرًا اسمه (مهران)
– {و} كاذبة .. لقد ساعدها يومًا بدائرة الضرائب وعفاها من مبلغٍ كبير.
– [ص] والعاشق؟
– {و} يكذب أيضًا..
– [ص] لقد سجنوه بعد إدانته بملاحقته الفتاة المتزوجة أصلًا بغيره
على الإنسان أن يكونَ صادقًا في كتابة مذكراته, ولكنني في الحقيقة كتبتُ قصةً لم تحدث أمامي بل اخترعتها بلا سبب, فقد نكذب أحيانا لأجل المتعة لا أكثر, سواء احترفنا الكذب أو جاءَ مصادفةً على أوراقنا. لكن الغريب أن نعترف بذلك رغمَ أن لا أحد سيكتشف كذبنا.
في الصفحات الأخيرة من مذكراتي ذكرتُ عبارةً لا أعرف لماذا ذكرتها حقيقة فهي لا تذكرني بموقفٍ أو شيء ما وهي أنني ” سأقفُ بجانبِ من لم يخدعني وإن كنتُ على يقينٍ بأنه سيفعلها, لكنني لن أقف بجانب من خدعني لأنه بكل بساطةٍ خدعني” ثم ذكرتُ أن عابرةً باعت جسدها لعابرِ طريق مقابل مبلغٍ من المال, قلما قضى منها وطرَه أطفأ سيجارته في فخذها الأيمن وانصرف بعد أن أعتذر لها عما اقترفهُ جنونه.
صاحت به أن اعطني مالي, فاعتذر مرةً أخرى ووعدها أن يعودَ يومًا ويعطيها مالها الذي لا يحملُ منه شيئًا
– [ص] بالتأكيد سيعود ما دام أن صاحبنا كذبَ في هذه
– (م) بل وبعد عشرةِ أعوام
– [ ص] زنديقٌ طاهرٌ هذا الرجل. ( قالها وضحك).
– ( و) عادَ ونقدَها بعد أن اشترط عليها أن تريه مكان الحرق على فخذها ليتأكد من شخصيتها.
– [ص] بالتأكيد أن الزمن محا آثارَهذا الحرق
– (و) يبدو أنك نسيت أنها قصة خرافية, بل وجد الحرق وأعطاها المال واعتذر عن التأخير, لكنه قبل أن يرحل خنقها.
– [ص] قتلها؟
– (و) لم يذكر هذا.. لكنه ذكر: أن مذاق جسدها لم يفارقه مذ ذاك الوقت.
رأيته أخيرًا .. ركضت باتجاهه مناديًا عليه بصوتٍ تفوق قوته كلَّ ضجيج الجمهورية التي التفتت لمصدره وأتجهت له, صوتٍ تشابكت فيه الدموع مع الدهشة مع الفرحة مع الغصة مع أي شيءٍ لا أعرفه .. عانقته.. درتُ به.. حضنته بعد أن تفحصت وجهه مئات المرات .لم أكترث بمن تجمع, لم أكترث بالهواتف التي بدأت تسجل حركاتي البهلوانية, وقفزي أمامه وخلفه بفرح, لم أكترث وهم يسجلون مقطعًا تتحدث فيه دموعي وضحكاتي الهسترية عن شوقي ( لمهران) .
– ( م) اجلس
– { و} أين كنت؟
– (م) أبحث عنك
– {و} لكنك من غادر
– (و) هل أنت متأكد؟
– {و} بالطبع .. لا يهم ولكن عليك أن لا تساعد الناس مرةً أخرى
– (م) لماذا؟
– {و} لا يستحقون .. أنت لا تعلم ما أحدثوه بعدك ..جميعم دون استثتاء تنكروا لك ونسوك .
الجماهير التي نزلت إلى الشارع عقبَ مباراة كرة قدم وأجهزت على آخر بحةٍ في صوتها هاتفةً : انتصرنا .. لقد انتصرنا؛ استوقَفَت ذاك العالم الجليل فسأل أحدهم: ما سبب هذه الفرحة العامرة والأصوات المجنونة ..هل دخلنا حربًا وانتصرنا بها؟
خصص خطبة الجمعة للحديث عن النصر الذي حققته الجمهورية على فريق أعجمي, ثم أسهب بالحديث عن النصر والفرحة والحماس الذي استمعَ إليه من أصوات الجماهير الغفيرة.
– [ص] أتذكر هذه الحادثة فقد ذكر أن هذه الفرحة بالفوز تدل على تعطُّشِ الشعوب العربية للنصر, واشتياقها له بعد كم الهزائم والنكسات التي مررنا بها حتى وإن كان هذا النصر نصرًا زائفًا ..
– (م) نعم ..هي صناعة البطل بغض النظر عن استحقاقه للأمر أو لا .
– [ص] والآن تحولت الأنظار للانتصار بالرقص والغناء.
– (م) حتى في هذه يتآمرون! .. المهم, ستسألني ما الذي جعل (واثق) يصنعني في خياله
– [ ص] بالتأكيد .. هذا ما يحيرني … لا سيما وأنني قرأت مذكراته الغريبة ولم أجد رابطًا بينك وبينه, أو علاقة مسبقة.
– (م) الجميع يا صديقي يفعل هذا ولكن بنسب متفاوتة فالشعوب المسحوقةِ بشكلٍ عام تحترف الانتظار, وتعقد الآمال على (القادم) فإن غنِموا أنفسهَم وحريتَهم طرحوه من خيالِهم وحديثهم.
لم أصدقه رغم أنني سمعت الحوار الذي دار بين صديقي ومهران من بدايته , لم أصدقه فاندفعت بجسدٍ لم يعرفِ الراحة والنوم مذ أيامٍ لداخل تلك العيادةِ البغيضة.
وجثوت على ركبتي أمامه راجيًا أن يقول لي الحقيقة, وأن يصارحني بكلِّ شي . لكنه قابل حزني وحيرتي بابتسامةٍ غريبة جعلته يتحول فجأةً لشابٍ أبيض وسيم تحمل نبراته الهادئه موجات من الراحةِ والسكون.
أمسكتُ رأسَه ورحت افحصُ ملامَحه ومعالمه التي أحفظها عن ظهر قلب … لقد تغير شكلهُ فجأةً, تحول وجهه وجسده بلا منطقية لشيء آخر. تحولَ من بطينٍ قصيرٍ أصلعٍ لرجلٍ آخر…أردتُ أن أضحك فلم أستطع .. وقفت فواجهتني مرآة معلقة بجانبي عكست صورةَ وجهي المتعب وقد ظهر من خلفه حرفُ ( دال) يلتصق به بعد نقطتين اسم مهران .لكنها فعلتَ مثلي تمامًا حين أوردتُ قصةً كاذبة في مذكراتي إذ عكست صورةَ رجلٍ آخر لا يشبهني من خلالي.
بدأتُ أتناقص وأتكور بشكلٍ سريع, بدأ شعري بالتساقط ونمو البثور على وجهي تزامنًا مع تغيرٍ غريب طرأ على نبرةٍ صوتي بعد أن صحت بها أو بي: من هذا ؟
تلمَّستُ سطح المرآة بدهشةٍ وتردد. استطعت الضحك هذه المرة بكل ما أوتيت من حزن .
نزلتُ الدرج مسرعًا وقطعتُ الشارع إلى حيث لا أدري .
قادتني قدماي لخمَّارةِ صديقٍ لا أعرفه ولم ألتقِ به يومًا. وقبل أن أدخلها شعرتُ أن أحدًا ما يلاحقني …..

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!