المخمور ولد القايد/ بقلم :نور الدين بنبلا ( المغرب )

اِختلطت أصوات الباعة ، وبوق المسجد، ونباح الكلاب لتشكل سمفونية عظيمة تفر منها ترنيمات شجية و لتؤثث فضاء سْويقَةْ الحومة القديمة بالمدينة العتيقة. فأغلب مرتاديها من عاشقات التسوق، نساء ممشوقات القدود، وأُخريات تثقلن الخطى  بأوزانهن الزائدة، تتلحفن جلابيب نسوية مغربية بألوان بديعة تختلط في تناسق غير ملحوظ لا يرمقه إلا مختلسي النظرات ومتتبعي خطى المتبخترات.

ومن زحام اللقطة، وكعادته يظهر الرجل المخمور، الملقب ب”وَلْدْ القايْدْ”. يحمل بين يديه الراجفة من رهبة الميعاد، محبوبته: قطة جميلة اسمها “نَمِرَه” نَمِرَة لكن لا قدرة لها على التمييز بين نحب الجنائز وبكاء البلابل على غصن مياد.

يمشي الهوينا والقلب عانقه الحزن،” كَفيِل أَبْرَهَة ” المتكاسل، ليضفي على الواقع فسحة لذرف دموع الأسى والشجن. دندناته مرة غير مفهومة ومرة يُطْلِقُ قصيدة غزلية مدوية تدهش المسامع، وكأنه “المَلِكُ الضليل” أيام المجون والصعلكة.

تغير سلوكه الى مخمور منذ خروجه من السجن المركزي” بولمهارز” ، ليتكسر جدار الحماية لديه، ويتلقى صدمة ناسفة أصابت خبيئة نفسه البئيسة في الصميم.

ترنح وتمايل ،ثم سقط سقوط المرأة المغمى عليها وسط جمع لعازفي موسيقى” كناوة” لاستحضار الجن، فتنحى جانبا، محاولا إظهار صلابة عوده الذي يبس منذ أن استقبله الشارع وارتمى في أحضانه.

وما فتئت صاحبته “نمرة” تتفلت وهو يتلمس ظهرها الناعم بيده ، ويده الأخرى تبحث عن أم الخبائث ، رشفة منها تكتم أنفاس المكان وضوضائه، وتهلوس البصر عنده، و تجتث جذور واقعه المؤلم. اِستفاق على صوت بائع السمك، تذكر قطته، التي تسللت منه دون أن يشعر ببرودة حضنه. تكبد عناء الوقوف للبحث عن معشوقته ومؤنسته، التي تتحمل ثرثرته وزلات لسانه. بالقرب منه، رمقها أمام حانوت بائع السمك، وهي تَعُد حركاته، لعلها تحظى بقضمة سمك تسد بها رمق الجوع الذي حل بها. اِنحنى وفرحته عارمة وهو يدندن :

لما الهجر يا جميلتي؟

لما كل هذا الجفاء ؟

يحدثها والحسرة تملأ قلبه. وعيناه تفيضان دموعا.

تدخل بائع السمك قائلا تذكرتك الآن، ألست بن القائد العربي؟

اِنتصبت هامته ، ونظر إلى البائع نظرة  ازدراء تطوي التذمر وعدم الرضى على واقع متغير، ومتلون له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب.

ثم سارع المشي في اتجاه المجهول، مخبئه القريب من سكة القطار، حيث اتكأ على عمود كهرباء، ومد رجليه ومقلتاه تتأملان رحلات القطارات في ذهاب وإياب وكأن الزمان يعيد نفسه، و بين الفينة والأخرى، يحتسي حسوة من عصيره الروحي المفضل.

وبصوت عقله الباطن و بنظرة حميمية لصاحبته ورفيقة دربه نمرة حدثها متغزلا: سيدة القطط أنت، تحتاجين إلى جرعة مشاعر حقيقية، غير مزيفة، تمحي ذبول الروح لديك، وتترك بصمة تقدير واحترام على صفحتك الطاهرة. تمنيت لو أزلت عنك الوزر الذي أثقل قلبك، همك، حزنك وحيرتك،. أنت قطة لا ككل القطط، عملة قل نظيرها لا يُقَدِر ثمنها إلا صَيْرَفي خبير محنك، علمته تجارب الحياة أن نقاء الجنس البشري اللطيف هو مجرد وهم.

 

 

 

 

 

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!