المنظّفة / بقلم : إبراهيم الحكيمي / اليمن

 تلك المنظفة المزاجية غريبة الأطوار، تارة تتغنّج مع الموظفين وأخرى تزمجر كلبوة.. عديمة أخلاق! كان هذا انطباعي عن “رقية” المسؤولة عن تنظيف الطابق الخاص بإدارة الشركة التي التحقت بها مؤخرًا.. في الصباح، تتسلل بخفة كالنسيم من فرجة الباب النصف مفتوح، نصف انتباه الموظفين يكون على الملفات وشاشات الحاسوب، والنصف الآخر على الوجبات الخفيفة السريعة التي تشغل معداتهم مؤقتًا حتى وقت الغداء. تتمايل رقية، تحتضن مكنستها بلاط المكتب بسرعة، مناكفات مازحة تحدث بينها وبين “صِدّيق” أمين الخَزنة، تأخذ سلة المهملات، وقبل أن تنفذ بجسدها من الباب، يلتف نصفها العلوي، يسدد فمها الدائري، الذي مسحته ببعض أحمر شفاه، شتيمة فجّرت ضحكة من فم “صديق”، الذي لحق طيفها المغادر بشتيمة أطاحت بشيمتها.. توقفت أناملي عن الطباعة، راح صديق ينظر إليّ وهو في منتصف نشوته: – ما بك؟ – لا شيء، قلتُ وأكملت الطباعة. وضع الكأس على الطاولة وخرج: – سأذهب إلى المغسلة، قال بجدية وهو يغادر.. تنحنحت هدى، سكرتيرة المدير، متناولة كأس الشاي من على الطاولة وهي منهمكة في ترتيب الأوراق، صرخ علي، الرجل المشهور بتدينه والتزامه، لحية غير منتظمة مرسومة على حواف وجهه الحاد، “اليوم هو يوم صرف المرتبات، لا تكثر من المماحكات وعُد سريعًا للعمل”. لم يُعِره صديق أي انتباه، اندفع خارجًا… لم أكن أعرف الجميع جيدًا بعد، فانهمكت فيما كان بين يدي من عمل. عاد صديق، متثاقلًا، ناقمًا على رقية: – يا لها من لعينة، قالها بغضب. – عليك لعناتك، قَدِم صوتها من خلف الباب وهي تمسح الرواق.. رجلٌ فاسق، أردفت.. نظرات شزراء طوّقت صِدّيق من الجميع ما عداي، حاولتُ أن لا أهتمّ، ما زلت غير مدرك لطباع هولاء.. ساعات تمضي، تعود رقية، تقعد أمام الطاولة بانتظار راتبها الشهري، يسيح صديق كماء المجاري بألفاظه، تُرى ما هذا الرجل النزق؟ في نفسي رددت، هي تراوغ بالحديث، تقعد وتقوم، تخلع حجابها وتعيد لفّه حول رأسها، حديث جانبي طويل، ضحكات، وفقط ينطق جسديهما اللذين أخذا يُوصلان معاني ماخلف الكلام.. شككت بأمر هذه المرأة.. تعمل أم تبيع نفسها؟ بحنق يردد علي بعض جمل محشوة بمصطلحات دينية، ويطلب هدوء ليكمل عمله، يخرسه الآخر بعنف، يصمت ذاك كأن شيئًا لم يَكُن.. شهر مضى، كنت خارجًا من الرواق، علاقتي لم تتوطد مع أحد لانطوائيتي، تخرج رقية، تعرض علي كأسًا من الشاي، أمضي شاكرًا، تعترضني بجسدها، أقف كصنم غير مستوعب ما يجري.. – ماذا تظن؟ أشيطانة أنا؟ لِمَ أقرأ في وجهك الامتعاض كلما نظرت إليّ؟ تظن نفسك ملاكًا والآخرون جميعًا شياطين؟ كانت غاضبة، عيناها احمرتا كجمرتين، وغصة رأيتها تتصاعد من ترقوة حلقومها حتى أصابت شفتيها بالجفاف والزُرقة، وبدأ الدمع ينهمر من مقلتيها، وكنت أتوقع هذا.. النساء غزيرات الدموع.. غالبًا بلا سبب مقنِع.. – ترى أي مكيدة تدبر هذه الشيطانة.. قلت في نفسي.. حين كنت في قمة فزعي، ركَضت هي نحو المطبخ، فهرعتُ عائدًا إلى المكتب.. يتساءل الزملاء عن حالتي هذه المتغيرة التي عدت بها.. أجيب بـ لا شيء.. كالعادة… أقعد أمام الشاشة، تتساقط أناملي على لوحة المفاتيح دون هدف، أجمع أوراق وأرميها، وعقلي منشغل، ماذا كانت تقصد هذه المرأة؟ لِمَ مالذي دفعها للبكاء؟ يا لكيدها.. تباً لها.. قلت وعدت لعملي.. بعد أسبوعين من الحادثة، تأخرت قليلًا في الدوام لإنجاز بعض المهام، بقيت وحيدًا، دلَفت إليّ رقية، بعد مقدمة طويلة، شرحت كيف أن زوجها دفعته الحاجة للخروج إلى جبهة القتال. لم يكن له أي رأي سياسي، ردَدتْ، ولكنه قال أنهم يدفعون لهم جيدًا مقابل خروجهم.. لدينا طفلين بنت بالثامنة وولد سيبلغ السنتين بعد شهرين، أطعمهما من هذه الوظيفة.. لست ساقطة كما تعتقد، على الأقل لم أكن كذلك قبل الآن.. لكن هذا ما تعلّمته بعد أن سمعت خبر مقتل زوجي، وخرجت لأجمع رزقي وأولادي بنفسي، لم أكن لأستطيع فعل شيء لولا الخضوع أحياناً ولكنّني حافظت على الحدود ماستطعت.. صمتت قليلاً وأردفت: – السفالة في الإنسان هي كالنخوة، متواجدة، يقرر الإنسان أيهما تهيمن على الأخرى، وهنا يا سيدي ماتت إنسانية هؤلاء فدُفِنَت النخوة واستيقظت السفالة، لتَمتَهِن ضعفي وحاجتي فيُنال مني غصبًا ما أبغض ويعتبرونه لهوًا عابرًا. أخذَت تمسح أنفها بخلف كفها، وأكملت: لقد شغلت عدة وظائف وطُردت بعد أن أحدثت العديد من المشكلات مع أمثالهم.. العالم مليء بالشر يا سيدي.. ولكنه مستتر.. كل هؤلاء أشرار.. حتى ذاك الذي يتزين بلحية زائفة.. إنه أشرّهم لأسباب أعرفها وحدي وغير مضطرة لكشفها الآن.. لم أكن مستعدة لخسارة هذه الوظيفة أيضًا، ولا أخفي أني وجدت نفسي متأقلمة مع هذه الطباع، بعد أن كنت أتغصبها في بداية الأمر لأحافظ على هذا الفتات الذي أتلقاه هنا، ولتعلم فقط أنّي لا أسمح لأحد أن يتجاوز ما وضعت له من حدود معي، وإن فعل أحدهم، غرزت في وجهه مخالبي.. أعلم أني أسهبت، ولست مضطرة لأشرح لك كل شيء، لكنني.. لكنني وجدت نفسي أفعل هذا.. يؤلمني أن تنظر إليّ كل يوم باشمئزاز.. أنا لست عاهرة يا سيدي، إنما هذا المجتمع المستذئب هو العاهر، المجتمع الذي لم تستعطفه حالتي رغم علمه بها.. المجتمع الذي لم يدَعني وشأني حين حاولت تركيز جهدي على ما يضمن لي رغيف عيش أزفّه إلى أفواه أطفالي.. وانتفضت.. خرجت فجأة، مختنقة بعبراتها، والكثير من الكلام كان لايزال يفور ويتصاعد من صدرها إلى فمها لكنها انهارت، بكت ورحلت.. وأطرقتُ أنا .. مذهولاً، رحت أتساءل، كيف يتعايش الإنسان مع الوحوش التي بداخله؟ 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!