الورطة/ بقلم : يوسف بولجراف

حين وقعت عيناه عليها بدا له وجهها مألوفا، كانت تبدو فاتنة وهي تتصفح أحد الكتب في زاوية المكتبة، تذكر أنه كان يقرأ لها مقالات جميلة في إحدى الأعمدة لجريدة نيويوركية، كان يعرف أنها مولوعة بالكتابات الرومانسية و تتفنن في حبكها بطريقة ساحرة كما أنها أستاذة تاريخ عام، كانت بهية ورائعة سلبته عقله قبل أن يراها من خلال كتاباتها الحالمة، والآن هاهي تبعد عنه بضع خطوات فقط ..فكر بطريقة لاغتنام الفرصة وفتح حديث معها خاصة وأنه كان يحب الأدب رغم اشتغاله بالمحاسبة في شركة خاصة فتحجج ببعض الخربشات التي كان يخطها، تقدم نحوها وألقى التحية، كانت ودودة جدا ولا تختلف عما تعكسه كتاباتها ، فعرض عليها أوراقه و طلب منها إبداء رأيها كونها كاتبة معروفة ،وافقت هي من باب التشجيع ونال هو بالتالي فرصة للقائها مجددا ، بدت غير آبهة في البداية وكأنها وافقت مجاملة له ليس إلا، لكن بمجرد أن بدأت بقراءة أوراقه شعرت بانجذاب غريب شدها نحو الكاتب ، وكأنه فر من إحدى رواياتها القديمة ففيه وجدت كل ما حلمت به وما كانت تحب، فبادرت فورا بدعوته على فنجان شاي وكلها حماس للتعرف أكثر على هذا الوسيم الذي استطاع أن يسلب عقلها بحروفه الأنيقة، تحدثا كثيرا لدرجة وجدا نفسيهما يخوضان في تفاصيل شخصية عن حياتهما الخاصة، وهكذا تعددت اللقاءات وصارت المواعيد بينهما تتقارب والمسافات تختصر، حدثها ذات مساء وهو يتأمل تعابيرها العذبة أنه يبحث عن فتاة تشبه تلك الفنانة التي تبهج قراءها بمقالاتها في عمود لجريدة نيويوركية وتدرس التاريخ الأمريكي وكأنها تحكي أساطير يونانية، ضحكت من احتياله على الكلمات وعلقت :“ تلك لن تجدها إلا في الاساطير اليونانية إذن“. كان يتأملها وينصت لكلامها بشغف وهي تحدثه فبدا لها لوهلة أنه يشبه الأطفال الذين تحكي لهم قصصا من تاريخ بلدهم، كان لبريق عينيه سحر خاص يعكس روحه الجميلة فأيقنت لحظتها أنه هو ، نعم حدسها لا يخيب أبدا وهي تعلم الآن أن من يجلس أمامها فارسها الحقيقي وليس مجرد شخصية أبدعها خيالها لتسكنها روايتها الجديدة ، لكن ماذا لو لم يكن هو ؟ ارتبكت أحاسيسها فتذرعت بنسيان شئ بالمنزل واستأذنته…

رافقها للخارج ولما بدا له الجو مضطربا ألح عليها أن يقلها للبيت، عجزت عن الرفض أمام إصراره فانطلقا وقد بدأت السماء بالشحوب ولما كان يحاول التأكد من الطريق انتبه لوجود سيارة تتعقبهما فانزعج من الأمر خاصة حين تذكر تركيز شخصين عليهما وهما في المطعم، ظن الأمر صدفة في البداية، لكنه الان تأكد أكثر، بدا انزعاجه واضحا ولم يتردد في إخبارها بالأمر انزعجت بدورها وقالت له :لا تأبه! لابد أنهما من رجال أبي إنه يبالغ كثيرا في القلق علي ويرسل دائما من يتعقبني حاولت مرارا إقناعه لكن دون جدوى .

ظل صامتا ولم يعقب، حين وصلا المنزل دعته لشرب شيء، ورغم التوتر الذي سببه له الرجلان قرر مرافقتها للداخل لاحتساء كوب قهوة، كان بيتها بسيطا وأنيقا وقد أضفت المكتبة الشامخة وسط البهو دفئا على المكان، سألها بفضول هل تحبين حياتك المستقلة هنا؟ فردت : كثيرا ! فمنزل والدي واسع جدا وبحكم عمله كرجل أعمال فقد تحول البيت لقصر ضيافة لا يخلو من الناس واجتماعات عمل لا تنتهي ، ورغم أني نشأت في ذلك الجو وسط أصدقائه ومعارفه لدرجة أني كنت اعتبرهم عائلتي لأنهم ينحدرون من نفس بلدتنا بإيطاليا، إلا أني كرهت ذلك الجو ولم أستطع تحمله رغم أني أحب والداي كثيرا وهما شديدا التعلق بي، لكني قررت الانفصال عن ذلك الجو والبحث عن راحتي، لم يكن أمر اقناعهما سهلا لكن في النهاية والدي لا يرفض لي طلبا خاصة ان دعمتني امي فهو يحبنا كثيرا ويقول دائما أنه يعيش لأجلنا، لكن رغم انفصالي وذوباني في هذه المدينة الجميلة إلا أني جد مرتبطة بجذوري وثقافتي الإيطالية فهي تتسم بدفء وحميمية ؛ ارتشف من فنجانه قهوتها الإيطالية وسرح بخياله مع كلماتها : لهذا إذن كانت كتاباتك تحمل حبا وحنينا لا يفتران لطالما أدفأت قلبي بحرارتها، هذا سرك إذن!.

انتبه لمرور الوقت بسرعة، كان عليه توديعها، شكرها على الضيافة الجميلة وأخذ منها موعدا للعشاء في نهاية الأسبوع، وبحلول الموعد جاءت في أبهى أناقتها ، فقد تدلل قوامها الرفيع في ثوب أزرق لازوردي كانت تشبه عروس بحر تحرسها أمواجه، فكر أن تلك الأمواج ستغرقه يوما إن لم يفز بقلبها قبل فوات الأوان ..

كيف مر يومك ؟ سألته لتقطع شروده ،

كان سيكون سيئا لو لم تلبي دعوتي لك، ضحكا معا وذابا في حديث لا ينتهي طوال السهرة، وحده الوقت الذي كان ضدهما وبدا أنه يمر بسرعة… حين أوصلها لباب البيت بعد السهرة أحست بمراقبة الرجلين لهما مجددا لكنه لم يعد يهتم لأنه اخيرا استطاع أن يجد حب حياته ولن يسمح لأحد أن يحرمه منها، ودعها عند باب البيت ورحل غير آبه بنظرات الحراس وظلت هي واقفة هناك تتأمله كانت تشعرأنها أسعد امرأة في العالم..

**

ذات صباح وهو في طريقه للعمل اعترضت طريقه سيارة ليموزين فاخرة ترجل منها شخصان ضخما البنية وطلبا منه الصعود، مانع في البداية لكنه أذعن بالقوة، كان هناك في المقعد الخلفي رجل في العقد السابع بفمه سيجار كوبي، نظر إليه بطرف عينه : أهلا بك أنا والد إليز، ثم عم صمت طويل، استغرب الشاب أن يكون لتلك الكاتبة الرومانسية والد حديدي كهذا لكنه تذكر كلماتها عنه وعن تعلقه بها، كانت السيارة تبتلع شوارع نيويورك فيم يفكر هو بمصيره ،قاطع الرجل تفكيره فجأة : انظر إلى هذه البنايات إنها كلها بعمر ابنتي تقريبا، آه نيويورك! يا نيويورك! لم تكن أبدا هكذا والآن كل شئ تغير ، واصلت السيارة طريقها إلى خارج المدينة وعند مفترق الطريق دخلت إلى منطقة شاسعة حيث شيد مصنع كبير، فتح لهم باب حديدي ضخم فدخلت السيارة ووقفت عند مستودع كبير خلف المصنع.. – اذن أنا مختطف الآن -علق الشاب بسخرية .. لا أنت صديق ابنتي ، رد والدها، وهي تحبك ، على فكرة لم أر ابنتي سعيدة كما أراها اليوم، أشار له بالدخول و سارا على طول المستودع ثم أردف، لهذا قررت أن تشتغل معي وسأدفع لك أضعاف مايدفع لك في تلك الشركة التي تعمل بها.

أنا؟ لكني مرتاح جدا بعملي وأحبه ولا يضايقني الوضع .

-عرضي لا يمكن رفضه أبدا ولا رجعة فيه أبدا.

عم صمت المكان ثم واصلا المسير إلى زاوية تطل على واد فرأى رجلا مكبلا محاطا بأربعة أشخاص كان يبدو منهكا وكله دماء، راع الشاب ما رآه، لكن والد الفتاة بدا هادئا منتشيا بسيجاره :- أتعلم يا بني سأحكي لك قصة لم أخبر بها أحدا من قبل لأني الآن أثق بك وأعلم أنك شخص جيد خاصة وان ابنتي تعزك كثيرا ؛ كان الشاب يسمع أنين الرجل وهو يتعرض للضرب من الرجال حوله وظل مثبتا عينيه عليه بينما ينصت لكلام والد اليز،- أكثر شئ أمقته هو الخيانة وهذا الذي تراه هناك هو خائن،

ماعلينا اتركنا منه سأروي لك قصتي الان و فيها ما يهمك كيف أتت حبيبتي إليز لهذا العالم

كانت والدة إليز أجمل فتيات البلدة وأرقهم عرفتها وهي ابنة السادسة عشر ربيعا ، نشأنا وتحابينا على ضفاف النهر دون أن نعلم أن هذا الحب سيكون لعنة، فعائلتها كانت تحمل ثأرا قديما تجاه عائلتي وهما أكبر عائلتين بالبلدة عائلات ثرية لكن لا تعرف سوى الحقد وبالتالي حكم على حبنا بالاعدام، كان أمامنا خيارين اثنين إما الهروب من هذا الحب أو الهروب معه وفعلا تزوجنا وهربنا معا إلى أمريكا رفقة مهاجرين، كانت فترة عصيبة جدا حين وصلنا لم نكن نملك شيئا عدا بعض مدخرات زوجتي من مجوهراتها وهبتني إياها كاملة، لن أنسى نظرة عينيها الواثقة وهي تمسك بيدي ثقتها وحبها كانا كافيان ليجعلا مني بطلا، ورغم كل المعيقات التي وجدتها بسبب لكنتي الإيطالية وعصبيتي الزائدة استطعت أخيرا أن أدخل عالم الأعمال مع بعض الايطاليين من بلدتي فازدهرت تجارتنا شيئا فشيئا ثم دخلنا سوق المضاربات وحققنا أرباحا خيالية وانتقلنا للعيش بحي راق هنا، لكن أجمل هدية حصلت عليها كانت إليز، فيوم رزقنا بتلك الفتاة صار لحياتنا معنى أعمق ؛ صمت برهة وهو ينظر إلى الرجل هناك! أشار لرجاله بالتوقف ثم اقترب منه، بدا ذلك الرجل كأنه يحاول التوسل له بالغفران ، دار حديث بينهما لم يتمكن الشاب من استبيانه، ثم عاد والد إليز إليه لإتمام القصة؛ أصبحت إليز نور حياتنا بهذه المدينة ، قمت بكل شيء من أجلها، حتى حياتي العملية أبعدتها عنها أردتها أن تكون شيئا آخر غير ماهو سائر في عائلتنا ، وفرت لها كل شيء وأنا جد فخور بمسارها كونها صارت كاتبة صحفية مشهورة وأستاذة تاريخ وروائية ،إنها نور عيوني وحين أراها أحب الحياة هل تفهم ؟ حين ولدت كانت سببا في تصالح عائلتينا ، قدومها للوجود جلب الحب والسعادة في الأسرة الكبيرة والصغيرة ثم ردد: الأسرة.. نعم يالها من كنز ثمين

…. مد بصره مجددا نحو الرجل هناك! وكرر: أنا أكره الخيانة !!

في إحدى الأيام لما كانت إليز لا تتجاوز السادسة حدث بيني وبين زوجتي خلاف حاد كانت تصرخ في وجهي بشكل هستيري فقدت أعصابها ولست أدري من الذي أخبرها عن مغامراتي، أعترف أني في مرحلة ما، زلت قدمي وانجرفت نحو رغباتي دون مراعاة لها وهي التي كانت عفيفة شريفة وصانتني في كل شيء أعترف أني ظلمتها بتهوري، وكدت من أجل نزوة أن أغرق مركبنا وأفسد كل ما بنينا معا وأن أهدم هذه الأسرة كنزي الثمين،

كانت صدمة لها خاصة أننا لم نكن مجرد زوجين على التقاليد الايطالية بل كنا كرواية روميو وجولييت، لم يفتر حبنا يوما وتضحياتها معي لن أنساها أبدا لكني خذلتها وجرحتها ،كان يوما عصيبا أتذكر ، صرخت وكسرت الأثات كله حاولت تهدئتها دون جدوى هددت بقتلي فخرجت ليلتها وتركتها علها تهدأ، أمضيت أياما أفكر بحل، عرفت أن الاعتذار لن يكون كافيا لأني جرحت كبرياءها لقد كانت خيانة عظمى لها لكن أكبر منها خيانة من وشى بي ، تساءلت في حيرة، خاصة وأن المحيطين بي كلهم ثقة أصابني الأمر بالجنون وبدأت أشك في كل شيء وفقدت الثقة بالجميع ولم أرحم كل من ساورني الشك حوله،

مع ذلك لم أتوصل لشيء ،وذات مساء بينما كنت في الحانة رفقة ابن اختي وقد كان ثملا ليلتها ،صار يحدثني عن صديقته وشدة تعلقه بها ، عرفت بعدها أنها هي وراء كل ذلك بسبب زلات لسان ابن اختي الذي لم أشك به يوما لكن صديقته تلك لم تفعل سوى أنها جنت على نفسها فلم يعد يسمع لها خبر بعد ذلك، مسكين ابن اختي ربما انبه ضميره تجاهي وأنهى الامر بيده، على كل أكثر شئ كان يهمني هو تسوية وضعي مع زوجتي وانقاذ ما تعبنا لأجله، عدت للبيت كانت قد هدأت قليلا لكنها ظلت تتصرف كأني غير موجود وتستفزني بلامبلاتها كنت أنام في غرفة ابنتي التي تأثرت من وضعنا كثيرا وأظل أحكي لها قصصا وروايات إلى أن تنام ، ظل الامر على حاله وعذاب الضمير يقتلني كل يوم تعبت نفسيتي وتعبت من الوضع كله ، عدت ذات مساء متأخرا ووجدت ابنتي بإنتظاري كعادتها لأروي لها حكاياتي، وضعت رأسها على كتفي كانت كالبلسم الشافي فرحت أحكي لها ودون أن أعي وجدتني اسرد قصتنا قصة عشقي لأمها وكيف أني قد أموت إن لم تغفر لي استرسلت في الكلام والدموع تنهمر مني كأني أيضا أسمع قصتي مني لأول مرة، كانت اليز قد غطت في نوم عميق لكني واصلت الكلام وأفرغت كل ما اختلج صدري ،و يبدو أن زوجتي كانت عند الباب تنصت في ذهول، دخلت الغرفة وعيناها تنهمران وقالت: لا أعرف لماذا فعلت ذلك.. لكني سامحتك .. فتعانقنا عناقا يشبه أول لقاء بيننا، دبت في عروقي حياة جديدة كانت لحظة أعادتني لأيام لقاءاتنا على ضفاف النهر حيث كل مساحات سيسيليا لم تكن تستوعب ركضنا وجرينا ،

أتدري ؟ قالها وهو يلق نظرة أخيرة على ذلك الرجل الملطخ بالدماء وهو تحت رحمة رجاله الذين ينتظرون اشارة من سيدهم لإنهاء عذابه،

– إن إليز تحبك لا تجعلها تتألم أبدا أفهمت ؟.. ثم أشار لرجاله بإنهاء الأمر فألقوا بالرجل في الواد أمام أنظار الشاب.. وها أنت قد صرت منا وتعرف كل أسرارنا الان.

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!