الْكَذِب وَالسَّعَادَة / بقلم : أنور الخَالِد

تَخرجتُ مِنْ كُلِّيَّةِ الطِّبِّ ، وَ عُينت فِي قِسْمِ أَمْرَاض النِّسَاء وَالتَّوْلِيد فِي الْمُسْتَشْفَى المركزي . لأتدرب تَحْتَ إِشْرَافِ الدكتورةِ مَها ، وَهِي رئيسة القسم  المعروفة بخبرتها كَبِيرَة . مُتَمَكِّنَة باختصاصها . تُعْطِي الْمَرِيضَة حَقِّهَا وَتُجِيب عَلَى جَمِيعِ تساؤلاتها .

تبذلُ قصَارَى جهَدَهَا بِإِخْلَاص لتَطوير مهارات مدربيها، وتحرص كل الحرص  كي اطِّلَاعهم  على أَسْرَارِ المِهْنَةِ الْخَفِيَّة . ليزدادوا  ثِقَةً بِأنفسهم.

تثابر على تعليمي فَنّ التَّعَامُلَ مَعَ الْمَرْضَى .

وَتقول: في كُلَّ يَوْمٍ نسمع من المريضات  قَصَص وَحِكَايَات عَن الْأَزْوَاج وَالْأَطْفَال ، بَعْضِهَا حَزِينٌ وَبَعْضُهَا سَعِيد .

تخدرت قُلُوبِنَا من هول ما نسمع فنهز رؤوسنَا بِالْمُوَافَقَةِ وكأننا مقتنعين بِمَا يسردن من روايات. نَكْتُم أَسْرَارِهِن وَلَا نتدخل فِي الشؤون  الْخَاصَّة . نَقُوم بواجبنا بِإِخْلَاص و تفان نَشْعر بِوَجَع الْمَرِضى وَلَا نتألم . فِي الْوَاقِعِ يَكْفِينَا مَا نعانيه من  ألام الْحَيَاةِ وَلَوْ أضفناها فَوْقَ معاناتنا لِمَا عِشْنَا بَعْدَهَا لَسَاعَات .

بَعْدَ مُرُورِ أَيَّامٍ فَقَطْ ، اِكْتَشَفْت أَنَّ هَذَا هُوَ الْحَالُ . وتعلمت بِسُرْعَة رَسْم اِبْتِسَامَةٌ احترافية وَالتَّحَدُّث بِصَوْت عَاطِفِيٌّ . يُشْعِر الْمَرْضَى بِالْحَنَّان وَالْأَمَان .

ذَاتَ يَوْمٍ تَأَخَّرَت الدكتورة مَها عَنْ عَمَلِهَا ، اِسْتَنْفَر قِسْمٌ الْإِسْعَاف لِإِنْقَاذ شَابَه حَامِلٍ كَانَتْ فِي حَالَةِ حَرِجَةً ، يرافقها زَوْجِهَا وَأُمِّه العجوز .

بَدَا الزَّوْجُ قلقًا وَانْدَفَع باتجاهي خَائِفًا مرتجفا . قَائِلًا إنَّ زَوْجَتَهُ تَنْزِف دماً مِنْ آثَارِ الْحَمْل . فَهِمْت مَا كَانَ يَقْصِدُه ، فارتديت قفازاتي ، وَأَشَرْت إلَى الشَّابَّة بِالِاسْتِلْقَاء عَلَى السَّرِيرِ .

تَقُول الْعَجُوز لِزَوْجَة ابْنُهَا لَا تَخَافِي سَتَقُوم الطَّبِيبَة بعلاجك اعْتَقَد أَنَّنَا وَصَّلْنَا فِي الْوَقْتِ الْمُنَاسِب وَقَبِلْتُهَا قبلَة اطْمِئْنان عَلَى جَبِينَهَا .

تُمسكُ بيد ابْنِهَا ويخرجا مِنْ غَرْفَةٍ الْمُعَايَنَة .

فِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ ، حَضَرَت الدكتورة مَها معتذرة عَن تَأَخُّرُهَا . تَقِف بِجَانِبَي ، تَرَاقَب باهْتِمام مَا أَقُومُ بِهِ فَهَذِهِ هي الْمَرَّةِ الْأُولَى الَّتِي أَقُوم بواجباتي كطبيبة دُون تَدْخُل الدكتورة مَها .

 

أَثْنَاء إجْرَاء الفحوصات الروتينية عَلَى الشَّابَّةِ باستخدام جِهَاز الْمَوْجَات فَوْق الصَّوْتِيَّة .

سَأَلْتُهَا كَالْمُعْتَاد هَلْ هَذَا هُوَ حَمَلَك الْأَوَّل ؟ بَعْدَ أَنْ أَدْرَكْتُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَمْلِهَا الْأَوَّل .

صَمَتَتْ وَلَمْ تَجِبْ عَلَى سُؤَالِي .

فَنَظَرَتْ إلَيْهَا وَسَأَلَتْهَا مَرَّةً أُخْرَى هَلْ هَذَا حَمَلَك الْأَوَّل ؟

ارتجفت شفاهها واحمرت وجنتاها وَكَأن صراعاً فِي قَلْبِهَا نَشِب . تُجْبَر لِسَانِهَا عَلَى النُّطْقِ بِالْكَذِب. وَتَقُول : نَعَم ، هَذَا هُوَ حَمْلِي الْأَوَّل .

لَقَد فوجئت بإجابتها ، وَلَم يَسَعُنِي إلّا تَبَادُلُ نَظَرَاتٍ الشَّكِّ وَالرِّيبَةِ مَع الدكتورة مَها .

فَأَنَا كطبيبة أُكْرِه الْكَذِبِ مِنْ الْمَرْضَى لِأَنَّه سَيُؤَدِّي إلَى تَشْخِيص خَاطِئٌ .

أشعر بالغضب من جراء إخفاء الحقيقة وَكُنْتَ عَلَى وَشْكِ تَوْبِيخِهَا . اسْتَدْرَكَت  الدكتورة مَها الْأَمْر وهرعت تَقِف بَيْنِي وَبَيْنَ الْمَرِيضَة وَتَقُول لَهَا بِخُفِّة ، آه ، لَا بَأْسَ ، أَنْت ضَعِيفَةٌ قليلاً ، سَأُعْطِيك بَعْضَ الْأَدْوِيَةِ الَّتِي تُوَقَّف النزف ، يُرْجَى الِاهْتِمَامِ أَكْثَرَ بِصِحَّتِك وَمُدَارة حَمَلَك وَالرَّاحَة وَالِاسْتِرخاء.

الْجَنِينُ فِي الشَّهْرِ السَّادِسِ صِحَّتِه بِخَيْر .

عِنْدَمَا انْتَهَت مِنْ مُعَايَنَتها و علاجها  دَخَلَ زَوْجُهَا فابتسمت لَهُ وَقَالَتْ ، تهانينا ، بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ سَتَكُون أبًا .

اِبْتَسَم الرَّجُل بِرِضَا ، ممتنا لنا.

وَاقْتَرِب مِنْ زَوْجَتِهِ وَقَدْ امْتَلَأَت أَعْيُنِهِم بِالدُّمُوع فرحاً .

ضَغَطَتْ العجوز  عَلَى يَدِ الدكتورة مَها ، وشكرتها ، وأدارت رَأْسِهَا وَقَالَت لِزَوْجَة ابْنِهَا بِكَلِمَات مَلِيئَة بِالْحَبّ ، مِنْ الْآنَ لَن تتعبي نَفْسِك بِأَعْمَال الْمَنْزِل .وَافَقَت الزَّوْجَة الْحَامِلُ عَلَى كَلَامِ الْعَجُوز وَهِي تُقْبَل يَدِهَا ، لَكِن عَيْنَيْهَا ظَلَّت تتجنبني . وَقَفْت جَانِبًا ، أَشْعَر بِالْخَيْبَة وَبَعْض السُّخْرِيَة فِي قَلْبِي ، أُحَدِّثُ نَفْسِي لَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الزوج  وَأُمِّه مخدوعين .   وَلَا بُدَّ أَنْ هُنَاكَ سِرًّا تُخْفِيه عَنْهُمَا .

غَادِر الثَّلَاثَة المشفى والإبتسامة عَلَى وُجُوهِهِمْ .

سَأَلْتُ الدكتورة مها  فِي حَيْرَةٍ شَدِيدَة لِمَاذَا لَمْ تخبرينهم وتكشفي حَقِيقَة كَذَّبَهَا؟ .

فَأَجَابَت بِصَوْت هَادِي ، وَبِقَوْل لَا يَخْرُجُ إلّا مِن شَفَاه حَكِيم :   بَعْضِ الْأَحْيَانِ يُمْكِنُنَا أَنْ نغْض الطَّرْف عَنْ بَعْضِ الأَكَاذِيب .

رُبَّمَا يَعِيشُونَ فِي سَعَادَة فَلِمَاذَا نعكر صَفْو حَيَاتِهِم

كَانَت مُفَاجَأَة هَذِهِ الْمَرَّةِ الْأُولَى الَّتِي أَعْرِفُ فِيهَا أَنَّ غَضَّ الطَّرْفِ عَنْ الْكَذِبِ بِهِ نَوْعَ مِنْ اللُّطْفِ ،   وَنَوْعٌ مِنْ التَّسَامُحِ ،   بَلْ وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ نوعًا مِنْ السَّعَادَةِ .

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!