تَقَلُبَاتٌ عِند حَافَّة السَّرِير/ بقلم :عمر الصايم

أشعرُ بغضبٍ مِن اِنتهاء الحلم، خيبةُ أملٍ تبللُ فِراشِي! أقسى ما فِي الأحلامِ اكتشاف أَنَّها أحلامٌ محضة، مُخاتِلةٌ ولئيمة. أنهضُ مِن نومِي أتلمسُ طريقِي إِلى كَوْبِ ماءٍ، حلقِي يتشقَّقُ كأرضٍ طينِيَّة جافتْها السحبُ. أرمقُهَا مُمَدَّةً إِلى جوارِي، مُنكفئةً على بطنِها، ردفُها الناضبُ يحتاجُ إلى سُحُبِي التِي سرقتْها تخاريفُ النومِ. فِي طريقِي إِلى كَوْبِ الماءِ ألمحُ يقظةَ جسدِي، تنتفخُ وتتكوَّرُ كَنَدْبَةٍ بَيْنَ سَاقَيَّ، لطالما كنتُ استخدمُها فِي التَّبَوُّلِ الليلِيّ المُنفرد، أفرغُ مثانَتِي وأعودُ ألوِي على أَطفالِي؛ لأتفقدَ نومَهُم، فِي هزيعِ الزواج يتكلَّسُ الأبُ فِي داخلي، وتتقمصُنِي الأمومةُ الدفينة! سأقف لثوانٍ أتأملُ انجرافَهَا فِي النومِ كشجرةٍ سقطتْ فِي النَّهْرِ مُنذُ سنواتٍ.. أتساءلُ مَن أسقطَ زوجتي فِي النومِ البليد، وحملَنِي إِلى برزخِ بناتِ الأَبَالِسَة؟ أَنْدَّسُّ فِي فِراشِي هاربًا مِن أخيلتي التي تنحشرُ بهدوءٍ بَيْنَ ثوبِي وجلدِي. أشعر بِحَكَّة تأكلُنِي، كتائبٌ مِن النملِ تزحفُ ببطءٍ مِن سَاقَيَّ، أتآكلُ وتصدأُ آلةُ بَوْلِي، فجأة تختفي، أصيرُ أملس بلا نتوء عدا أنفي التِي تشتمُ عطرَ أُنْثَي فِي البعيد، عطرٌ ينسابُ مع ضحكتها التِي تنفتحُ لها النوافذُ.
فِي ليلتي هذه أُريدُ ماءً أكثر برودةً، بَلْ أُريدُ لوحَ ثلجٍ يُضَاهِي جبلَ الجليد الذي أذابَه حُلمِي بامرأةٍ فاجرةٍ، ذات طقوسٍ مَنْسِيَّة. لن أنظر إِلى شريكة حَافَّة الفراش؛ فلطالما نظرتُ؛ واجتاحَنِي النملُ، لن أُدَثِّرَ أطفالِي، فلطَالمَا دَثَرَّتُهم ولم تشفعْ لِي الحياةُ أمامَ ضجرِهَا القاسِي! سأَكْرُفُ عطرَ البعيدة أَيْنَمَا طالتْهُ أنفِي، سأحسو الشَّهْوَةَ على أُمِّ رأسي، ورأس مَنْ مَات رغم أنفِهِ. عدتُ أُجَرِّر قدمَيَّ حيثُ لا معركة هُنا، بعدما كنتُ أسيرُ على حواف أصابعِي؛ الآن أرقد بكبرياءٍ مَزَّقَتْه النَّوايا الساذجة. ظَلَّتْ نائمةً بلا مواربةٍ، نَوْمٌ مفتوحٌ عَلَى مِصْراعَيه، تُرَى هل تحلمُ بإبليس شخصِيًّا، هل يجتاحها بقرنَيِه الآن، ويحرقُ جَوْفَها بلسانِهِ الجُهَنَّمِيّ؟ لا يبدو عليها التوعُّك أبدًا، ولكنها عادتها الحميمة، دائمًا ما تلوذُ بالتكاسلِ، والتَّحْدِيقِ فِي العدم، لا تموتُ، ولا تحيا، فقط تنافحُ لينتهي الأمرُ.
قررتُ أنْ أوقظَها قسرًا، أنْ أسردَ لها ما رأيتُهُ فِي نومِي، سأحكي لها بجرأة “ََْبَيْنَمَا أنا فِي مَحْفَلٍ مِن النِّسوَةِ المُتسربِلَات بالشهواتِ، يحطن بِيّ كنسرٍ صقلتُه الذُرَى، وأماطتْ السفوحُ ريشَهُ عن صدرِهِ، بَيْنَمَا أنا طائرٌ يعشقُ الطِراد، والمناقيرُ المُدَببة على ألوانِهَا؛ إِذْ بامرأةٍ تتحدَّثُ كُلَّ اللغاتِ، تجمعُ خرائطَ اللعناتِ على جسدِهَا البديع، وتنبثقُ بخضرتِها مِن بَيْنَ الجائعاتِ. جسدُهَا يرتَجُّ بالاشتهاءِ، ويتكوَّمُ فِي الجنونِ الجامحِ. تلكزُنِي بعينيها لَكْزَ مَن لا يخشى ظُلْمَة الاحتضانِ، تُخْرِج لسانَها القانِي على هيأة أفعى هائجة، تتمَطَّى فِي نارِ الانتظارِ، وتستحمُ باللهبِ. قلْتُ لقلبي: تَبَّتْ يداي وما جنيْتُ؛ إنْ لم أدلقْ مائي وأحيلْ نارها فَحْمًا! ثُمَّ أَنَّنِي لففْتُ يدَيَّ حَوْلَ زندِها المتين، سحبتُها برفقٍ، وقذفتُ بها إِلى فراغِي الجَشِع. بدأتْ تكبرُ، تتجمَّعُ سُحبُها مِن كُلِّ نهرٍ، تفيضُ بالمطرِ. بدأَ فراغِي يضمرُ، تَتَقَزَّمُ فقاعاتُ محيطي، وتفرقعُ فِي دواخلِي. تلاشى الفضاءُ، تلاشتْ خضراءُ الليلِ، وتلاشى زوجُك فِي خلايَاه.
لم أذكرْكِ لحظتها، لم أذكرْ أطفالِي النائمين فِي غَفْلَةٍ مِنَّا. كنتُ أتمنى أَنْ أنجبَهُم فِي الحُلُم، أَنْ أراهم يخرجوا مِن بَيْنَ الانفجارِ كقاطراتٍ تنحرفُ عن مسارها للأبد.. حين تركتْنِي المرأةُ كنتُ صريعَ لحظةِ الإفاقة، لم أفهمْ شيئًا مِمَّا حدثَ، ولكنني عشتُ واقعًا لم أحلمْ به مطلقًا، اكتشفت كم أَنا صفيقٌ، شفَّافٌ، وعميق! رغم الهُوّة، وانحسارِ المرأةِ ـ أَيّ امرأةٍ ـ عنِّي لسنواتٍ قضيتُها على حَواف مِن ثلج.”
انقلبتْ زوجتِي على شِقِّها المُعادِي لِي، تحذو ذِقني تمامًا، بغير عمدٍ أسقطتْ كفَّها على شاربي. أحسَّتْ برطوبةِ الماءِ الذي تَجَرَّعْتُه بعد حُلمي بشغفِ الظامِئ لإطفاءِ جوفِهِ، تَحَسَّسَتْهُ أكثر وبَدَتْ مرتابةً. فتحتْ ما بَيْنَ جفنيها، فَغَرَتْ محاجرَها المملوءَة بالنومِ. تسرَّبَ الخوفُ إِلى قلبي عندما أقعتْ في منتصف الفِرَاش كقِطَّةٍ مُتَحَفِزَّة. بدأتْ تَشْتَّمُنِي، تُحَرِّكُ أنفها فِي إِبطي مَنْتًوفَي الأَجْنِحة. ترفع رأسها مِني مَقْهُورةً، دمعةٌ توشكُ أَنْ تطفرَ مِن عينيها، ثَمَّة شفقة مُنْدَّسَة فِي وجهها.. قالتْ بصوتٍ منخفض، أكثر انخفاضًا مِن حفيف إِيداع السرِّ فِي مكانٍ غير آمن..
ـ على جسدك عطر امرأة أخرى.
ارتعدَتْ شُعيراتُ شاربِي! وقفتُ أصرخُ فِي أُذنيها..
ـ أنا..؟ مستحيل!
هتفتْ بكلماتٍ مُتَداخِلة، وهَمْهَمَةٍ مَكْتُومة. سألتْنِي بحدَّة
ـ مَتى حلقتَ إِبطيك؟ نِمْتَ إِلى جواري، وهما غابةٌ مُتَعَطِّنة مِن الشَّعْرِ!
أسدلتُ بصرِي على إِبطَيَّ وعانَتِي، أرضٌ جرداء تَحَسَّسْتُها. رائحةُ المرأة تسكنُ أنفِي! زوجتي القطة تبتسم بأنيابٍ، تُؤَشِّر نحوي بمخالبٍ، وتُهَمْهِمُ بلغةٍ لا أفهمُها.. مِن يومِهَا أقنعتْنِي أَنَّ جِنِيَّة ما اختطفتْنِي منها، أَنَّنِي زوجٌ لأُنْثَى أُخْرَى لا تُرَى بالعينِ البشرية. مِن يومها وأنا أعيشُ فِي عالمين! الجِنِيَّة لَمْ تحضرْ أبدًا لمنامِي.. لا أشعرُ نحو الأحلامِ بشوقٍ، ولا نحو زوجتِي بالانجذابِ.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!