و أخيرا استطاعت أن تخلد للراحة وتستريح من هموم الحياة وضغطها . ترملت في منتصف الطريق ، ولما استفاقت من صدمتها ، وجدت أيد تشد تلابيب لباسها و أفواه فاغرة تنتظر من يطعمها . ولَم يهب لنجدتها إلا ذراعيها و شجاعتها .وفرت لأولادها ما تلزمه الحياة للعيش مثل أندادهم من الجيران ، لم تبخل عنهم من حنانها و لم تفرط في صرامتها إن وجب الأمر ، تربوا مثل أولاد الجيران ، لبسوا بذلة و اقتنوا محفظة جديدتين أول يوم المدرسة ، انتعلوا حذاء ومعطفا جديدين يوم العيد ، اشتروا الحلوى المصاصة مثل أقرانهم عند باب المدرسة . لعبوا وتشاجروا و تصالحوا لتوه . غنوا بلغتهم عن أحلامهم وعن غد أفضل . كبروا وشاخت الأم التي أنهكتها مرارة الحياة و ما تبقى منها كان من نصيب أعراض تقدمها في السن . تجاوزت عقدها السادس . أصبحت جدة وتنتشي فرحا حينما يحوم حولها أحفادها في الليل ، يتزاحمون على مكان قربها ليسمعوا حكاياتها ، ثم يغطون في نوم هادئ . حينها تشعر بالطمأنينة و الأمان وتتبع أحفادها الى عالم الأحلام . أحفادها ، دواء أرقها المزمن .
اندلعت شرارة الإحتجاجات في البلدة مطالبة بتحسين ظروف العيش وضد التهميش ، و لم تهدأ هاته الاحتجاجات بالوعود التي اعتادوا عليها ، ولتفادي امتدادها ، أخمدت شرارتها بإلقاء القبض على كل نشطائها واحد تلو الآخر .
في ليلة ، لم يعد الابن الى منزله . طال انتظار الأم ، وخرجت تتقفى أثره . أخبروها ، أن ابنها ألقي القبض عليه ، كبل في ظهره ، أركبوه في عربة و اقتادوه الى وجهة مجهولة . عند سماعها الخبر ، كادت أن تتهاوى ، سيل من العرق البارد نز من جسمها ، ونطقت عبارات غير مفهومة ، كهذيان شخص محموم . التقطت أنفاسها و عادت الى مسكنها . خلت لنفسها في غرفتها و وأجشت بالبكاء .
في الصباح ، نساء كثر ، توافدن عليها لمواساتها . مواسات بعضهن ، تشبه عبارات العزاء ، كأنها ثكلى فقدت إبنها . لكنها لم تأبه لهن . تبدو هادئة و ابتسامة لا تفارق وجهها وإن لم تغمض جفنها ، الليل بأكمله . عرفت أن ابنها اقتيد الى معتقل أقصى البلد . من حين لآخر تبدو شطأنة البال ، تفكر كيف تزوره ، و هي التي لم تسافر قط ، سفرها الوحيد كان يوم زفافها حيث امتطت بغلة ، و جرها أهل بعلها .
بعد بضعة أيام ، أخبروها هي وباقي أهل النشطاء أن حافلة وضعت في خدمتهم لتقلهم حيث يوجد المعتقل ، ومحامون كثر تبرعوا للمرافعة عنهم .
تزوره مرة في الأسبوع . وخلاله تهيئ لوازمها وتجمع قواها . أصبحت صماء لآلام ظهرها والتهاب مفاصلها . حزام طبي و مسكنات لا تفارقها . لا تتوق الا لرؤية إبنها . تستقل الحافلة عشية ميعاد الزيارة و الرحلة تستغرق ليلة كاملة بظلامها . لا يغمض لها جفن الا غفوات و تفيقها هزات الحافلة أو منعطف حاد . تصل منهمكة ، رجلاها متورمة ، ولكنها تسير بخطوات ثابتة ، وقامة منتصبة ، و بمزاج مرح . الكل يتساءل من أين تستقي قوتها الجسدية منها و المعنوية . لم يكن يهمها لا الرحلات المتعبة ، ولا قساوة المحكمة ، سوى أن تعيش وترى ابنها و رفقاءه أحرارا ، و حتى إذا توفيت ستجد من يتكلف بدفنها .
—