جلاّد الأمس/ بقلم : حسن سالمي/ تونس

فتح خزانته الحديديّة ذات الأرقام السريّة المعقّدة.. وراح يتأمّل في أحشائها أقنعة كثيرة.. تخيّر واحدا منها، هو القناع رقم 14. ثمّ أحكم إغلاق خزانته، قبل أن يتوجّه إلى المرآة الكبيرة التي تتوسّط حجرته الغامضة.. نزع عن وجهه قناعه القديم، القناع رقم 7.. وراح يتأمّل وجهه المسلوخ العاري من اللّحم.. شعر بانقباض شديد وذاكرته تعيد عليه مشاهدا من تلك الأيّام، حين كانت له الدّنيا هيّنة ليّنة، تطيعه ما أمرها.. وضع القناع الجديد على وجهه وقد اجتاحته رغبة جامحة في أن يعيد مجده التّليد مهما كلّف الأمر.. سوّاه في موضعه.. تحسّسه بأنامله وعاد يتملّى في تقاسيم سحنته الجديدة..

ها هو الآن بوجه آخر، يستطيع أن يلعب به مع الرّيح..

بعد ساعة واحدة كان في قاعة واسعة عريضة، غصّت بمريديها من النّساء والرّجال والشّيب والشّباب، في أياديهم أعلام بيضاء حمُّرت بشعارات ووعود تبشّر بالنّعيم..

ما إن اعتلى المنصّة، حتّى ارتفع التّصفيق والهتاف.. سكت الجوّ لحظة، ليرتفع صوت النّشيد الوطني في نغمة معهودة، أقرب ما تكون إلى الخشوع..

ألقى نظره على الحاضرين من وراء نظّارته القديمة، فألفى على وجوههم أقنعة لم تخطئها عيناه المدرّبتان.. ابتسم ابتسامة ليس من الصّعب حلّ شفراتها.. تنحنح، وراح ينخرط في خطبة عصماء:

” عار بعد الثّورة أن يسلب المواطن كرامته، وقد خلق حرّا.. لا سلطان عليه إلاّ سلطان الضمير والقانون.. إنّ لجسده حرمة، لا يجوز انتهاكها مهما كان الدّافع.. ومهما كان العنوان…”

من آخر الصفوف برز كهل برأسه الأشيب.. تطاول بقامته النّحيفة.. بسط يده أمام جبينه ينظر ناحية الخطيب.. تقدّم نحوه وهو يعرج عرجا شديدا.. كان رقيق العود.. قصير اللّحية.. على جبينه خدود عميقة.. فلمّا مثل أمام الخطيب والنّاس ينظرون إليه في حيرة، صعّد فيه بصره ونزّل.. ذاكرته تفتح أبوابها على الماضي: الخطيب بقناعه القديم، في يده سوط من أذناب البقر، ينهال على جسده المنفطر العاري وهو يقول في سخرية: “ذق. أيّها الحاكم المرتقب”!

نفرت دمعتان من عينيه.. غمغم في حسرة:

  • جلاّد الأمس!

وما عتم أن التفت إلى النّاس فصاح فيهم:

  • إنّه جلاّد الأمس.. فلا يغرنّكم كلامه المعسول!

صاح الخطيب في أعوانه:

  • انزعوا عنه قناعه فلا يخدعنّكم هذا الزّلم !

انقضّوا عليه انقضاضة رجل واحد.. سلخوا وجهه بأظافرهم.. صاح والغصص تتكوّر في حلقه:

  • إليكم عنّي أيّها الملاعين. إنّه وجهي !!

صرخ الخطيب مجدّدا:

  • كذّاب. إنّ على وجهه قناعا فانزعوه !

انبجس الدّم من كلّ مكان من وجهه.. سال على صدره.. أوشك أن يغمى عليه.. بيد أنّ النّاس وسط الضّوضاء لم يصدّقوا أنّ وجهه بلا قناع.. لاسيما والخطيب يعلو بصوته عبر المصدح:

  • لا يغرنّكم الدّم الذي يسيل من وجهه. إنّه دم كذب، كدم بكارة زائفة !!

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!