دون وداع / بقلم : القاصة المغربية الدكتورة بلقيس بابو

أجلس بمحاذاة  الشاطئ الجميل و أعبث بالحصى الأبيض الصغير الناعم  الذي حلَّ محل الرمال الذهبية  ليسمح للموجات الصغيرة بالحفاظ على نقاءها وشفافيتها.. أتأمل انكسارها و تتابُعها الواحدة تلو الأخرى دون مللٍ في حركة تجعلك تتأرجح على ايقاعاتها كأنك تركبها،  بريق الماء  وصفاءه يمنح شعورا بالطمأنينة و الأمان

تحملني رؤية الأفقِ الأزرقِ  إلى  فضاءات لا  حدود لها، حيث أحلق عاليا بمحاذاة طيور النورس البيضاء  لأعود و أحط  على الشاطئ من جديد ..أجمل ما في الأمر أن لا أحد يعرف بمكاني و ربما لم يلحظ أحدهم غيابي  منذ الأمس.

بينما  صرت أشعر أني جزء لا يتجزأ من هذه اللوحة الفاتنة للطبيعة.

يقطع عليَّ خُلْوتي   صوتُ  خطىً تتقدم  نحوي ، يقفز قلبي من مكانه، لم أقطع كل هذه المسافة لأجد نفسي قد لحق بي أحد ما ، أسمع وقع الخطى يقترب، أرفع رأسي فإذا  هو رجل متوسط العمر، أسود الشعر بنيَّ العينين ، طويل القامة ، قوي البنية ، تنسجم وسامته مع جمالية المكان،  أزيح نظري سريعا  فأنا لا أعرفه ، و لا يهمني أمره،  تجاهلت مروره، و تمنيت لو أنه يسرع بخطاه ليخلي المكان  و يمضي ..فيعود  فضائي إلى هدوءه حيث لا مناجاة إلا مع الطبيعة ..  انتفضت حين سألني  ؛ أتحبين البحر ؟ منذ ساعات و أنا أراقبك  تعانقين الشاطئ و تغازلين الأمواج ؟

ما كدت  أفكر كيف أجيب حتى جلس بجانبي … لم أمانع

تحدثنا وقتا  طويلا ، في مواضيع مختلفة،  لم نتعرف على بعضنا حتى،  انسجمنا بشكل غير طبيعي  دون  مقدمات،  دون رسميات ، كأننا نعرف بعضنا  منذ سنوات ، جرتِ  الأحداث  بتلقائية غريبة و مريبة في آنٍ  واحد..  مرت  ساعات طوال بين  حكي، ضحك ، فضفضة…. وسعادة  خفية …بدأنا   نستجديها  بتكرار اللقاءات.. نتحدث عن كل شيء ، أي شيء ، أحيانا لا ننطق  بكلمة  فتحل لغة الصمت، تشفي  غليل الكلمات….

كنت قد أحرقتُ  جثّتَها بداخلي..  نترتُ غبارَها  على  مساحات  الماضي،  ليس لدي  الكثير من الوقت لأحزن  من أجلها و  لا لأُقيم   مراسيم  العزاء ، ما الجدوى من ذلك،  لدي  الكثير  من العمل  لأقوم  به،  وقتي ضيق  و أحلامي  كبيرة ، ولن  يكون  البكاء وراءها  إلا  حجَرَ  عثرة   في  مساري،  أنثرُ  غبارَها على كل المحطات   و  أمضي… أعترف  أن  لدَّي  بعضٌ من الحسرة ، وددتُ    لو  كان  بإمكاننا  المُضِّي معا ، جنبا  إلى جنب. .لم يكن ذلك  ليكون  صعبا،  لكن إهمالي لها  جعلها  تنطفئ  يوما  بعد  يوم  على  غفلة  منّي،  جعلها  تموت  موتا  بطيئا، فصارت  تختفي رويدا  رويدا  إلى أن  فقدتها و سط الزحام… لا  يمكنني  اليوم  أن أظلم نفسي  كذلك   و أُغرقَها  في  بحرٍ  من  الندم  و الأسى،  سيمكنني العيش   بدونها،  كانت  تجعلني  أبدو  ضعيفة ، لربما  كان  رحيلها  فرصة لي  لتحقيق كل الأحلام،  و الحصول على كل النجاحات..للبدءِ من  جديد، بأسلوبٍ جديد، بحرية  أكبر… أجل الحرية ، كلمة جميلة جداً و   مغرية  للغاية  ناضلت من أجلها كثيرا ، لكنها  تبتعد  كلما اقتربت،  و تختفي كلّما أيقنتُ  أني أملكها بين يديّ.

ماتتْ  امرأة  كانت  تسكنني……

مضَيْتُ  قُدُماً و نسيتُ  أنَّ طعمَ الحياة  قد يحلو  لو كُنّا بِجانب من نُحب ، وأنَّ أشياءَ صغيرة  تكفي لِنشعُر بِسعادة كبيرة ، وأننا  رُبما  قد نُضيّع  أيام عُمرنا في مكانٍ خطأ ، ومع أشخاصٍ خطأ ، و بِإحساسٍ خاطيء تِجاه الأشياء  و  المواقف

 كنت  قد  حسمتُ أموراً كثِيرة  و ها أنا اليوم لا أستطيعُ  التوقف عن حبِّك ،  ليس الأمر  بيدي،   حبّك  مصنّف خارج سيطرة العقل،  لا تشمله إرادة … ترى ما الذي فعلته  ليشتاق لك قلمي و أوراقي، أكتب لك و عنك..

ما الذي فعلتَه حتى تضُمَّك أحلامي… نوما و يقظة ..

 كيف قلبتَ موازين أنوثتي،  كيف ألتقيها بعد طول غياب، كنتُ قد صدَّقتُ أنها رحلت إلى الأبد.. و ها أنت تُعيد جمع شتاتها، تعيد إليها أمجادَها و سحْرَها،  و ها  أنا  ذا

أتلو ترانيم هزيمتي أمام   غرابة الموقف و صعوبته ، أمام جبروت حبك

لستُ أدري ماذا فعلت حتى غيَّرْتَ اتجاه طريقي، لا أعرف ما يحدث لي ، ولا ما يحدث لنبض قلبي كلما جاء  ذِكرك، فما بالك لما  تراك العين.

من أين لي أن أقاوم هذه الجرعات المفرطة  منك  حدَّ  الإدمان عليك

كيف يسكن الحب أحلامنا ، ويختفي كلما أشرقت  شمس الواقع

أي  تعويذة  هذه ،  وأي  عطية  تلك التي  تمكَّنتَ بها  من  إحياء  رُفاتِ امرأة

تكررت لقاءاتنا،  و  صار الفرح  لها عنوانا،  كأن روحي  تحتفي  كل  يوم  بميلاد جديد..

قطعت كل تلك المسافة كي  ألقاك على الشاطئ كما أوّل مرَّة.. أسابق الزمن  كي لا أتأخر عنك

وصلت ..لم أرك ، لم تلمحك عيناي.. كنت تسبقني دوما إلى مواعيدنا،  أجوب الشاطئ ذهابا وإيابا،  لا تكاد تحملني رجلايَ قلقاً..جلست لبرهة  أجمع شتات أفكاري ،  و أهدئ من  هول مخاوفي،

تبحثين  عنه؟  فاجأني  صياد مسِّن كنا نلمحه من بعيد بسؤاله ..

أجل ، لا أدري ما خطبه، لقد اتفقنا ان نلتقي هنا اليوم..

لا تُتْعبي نفسك يا ابنتي،  لقد لفظه  البحر  بالأمس ليلا

انقطعت أنفاسي و فتحت عينيَّ على مصرعيهما  دون أن أنبس بكلمة فأردف  الشيخ الصياد :

 –كانت زوجته تخبر الشرطة إنه ترك رسالة  وداع… 

زوجتُه؟؟ وداع ؟؟….

رحل  عني دون  وداع….. و ماتتْ امرأة  كانت  تسكنُني،  رحَلَت إلى الأبد

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!