ذو الأذن المـــقطـــوعة / بقلم الروائي والقاص الأردني توفيق أحمد جاد

أفاق من نومه يتخبط ، ويصرخ في زوجته: هيّا، لقد تأخرت كثيرًا. هيا يا امرأة.

فاطمة: على مهلك.. فالشمس لم تشرق بعد.

خليل: ولكنّ طريقي طويل وشاقّ.

فاطمة: وهل ستحمل الحنطة على ظهرك!. في التّأني السلامة.

خليل: وأيّ سلامة هذه، عندما أسير في حر شمسٍ حارقة!

فاطمة: البس كوفيتك.. ستقيك حر الشمس

خليل: الكوفية ستحمي رأسي.. وباقي جسدي ستذيبه الشمس.

قاطعهم ولدهم أحمد – ابن العشر سنوات – : لا تقلق يا أبي. أنا سأجهّز الحمار في دقائق قليله.. لكن أطمع في مساعدتك لنضع الحنطة على ظهر الحمار، فهي ثقيلة وأنا لا أستطيع حملها وحدي.

فاطمة: على مهلك يا ولدي.. فيجب أولا أن أقوم بتجهيز الزوّادة لوالدك، حتى إذا جاع وجد ما يأكله. حاول أن تؤمن له الماء، فالطقس حار.

أحمد: أمرك يا أمي.

خليل: الله يرضى عليك.. وكما تقول أمك، لا تتعجل بوضع الحمل على الحمار.. فقد يتعب، قبل أن أتوكل على الله.

أحمد: حاضر يا والدي، إذن سأقوم بتجهيز الماء للشرب.

سيسافر خليل لطحن قمح الموسم الجديد.. مسروراً في قرارة نفسه، فقد أنعم الله عليه بخيرٍ وفير.. وها هو، يأمل أن يعود لبيته وأهله، حاملا الطحين.

سار خليل متثاقلاً، ينظر إلى حماره.. يفكر بحال هذا الحيوان المسكين، الذي يحمل حمولة ثقيلة، قائلا: “توكلت على الله، الذي أرجو أن يمنَّ علَينا بالوصول سالمين”.

سار، حتى وصل إلى نبع ماؤه لذيذ و بارد. فوقف وأنزل ما على الحمار، وأمدّهُ بالطعام والماء، وبعد أن تناول غداءهُ، عاد ليُتابع المسير، تحت حرارة الشمس الحارقة.

وصل بعد ساعاتٍ إلى المِطحنة، وأنزل ما على الحمار.. أخذ دوره في الطابور، وكان الطحن على آلةٍ بدائية.

جلس خليل يرقبُ حركة الناس ويتابع الدّور بانتظارٍ قاتل. في هذه الأثناء، شيء ما لفتَ انتباهه وأغاظه.. أحدهم يعتدي على الدور، دون استئذان.

اقترب خليل من رجل يُعتدى على دوره وقال له : أودّ التعرف إليك

الرجل: أنا سعيد

خليل: حياك الله يا أخي سعيد. ولكن ألا ترى أنّ ظلمًا يقع عليك، ولا تحرك ساكنًا! أخبرني، ما الذي يجري هنا؟. أعذرني، قد أتطفلُ عليك.. ولكننّي لم أستطع صبرًا.

سعيد: اجلس يا أخي، فأنا سأحدّثك عن أسباب سكوتي.. إنه نظام “الزجورتيّة” الظالم..

في الحقيقة، كنت يومًا ما من هؤلاء.. ولكن ذات يوم، بينما كنت أجلس تحت شجرة خرّوب وافرة الظلال، مستمتعًا بالهواء اللطيف…

خليل: على رسلك، وضّح لي أولاً ما هو نظام ” الزجورتيّة” هذا! أخبرني أكثر.

سعيد: حسناً.. عندما يكون في قريةٍ ما، أو مدينة ما، رجل من هؤلاء.. لا يستطيع أحد من الشباب منازلته. فهو الأقوى بينهم، وإذا رأى في نفسه قوة أكبر، سافر إلى البلدة المجاورة حتّى يكسر “زجورتيّتها” ويصبح هو، أرجل القريتين.. وهكذا.

خليل: حسنا.. أكمل

سعيد: فبينما أنا سارحٌ في ملكوت الله، جالسًا تحت شجرة خروب، وإذا بفارس يمتطي صهوة جواده ويتقدم نحوي قائلا: مرحبا يا أخي. هل لك أن تُعلِمني عن شخص أبحث عنه، يدعى “الزجورتي سعيد”؟.

سعيد: على الرحب والسعه، ترجّل فأهلا بك، لقد وصلت إلى مبتغاك، ووجدت ضالتك.. أنا سعيد، تفضل ماذا تريد؟

 

هنا، ترجّل الفارس عن فرسه، وتقدم نحو سعيد.. أمسك بأذنه وقال: اعلم يا سعيد، أنه ما دام هناك نساء تحبل، وتلد، فليس هناك قويّ بين الرجال، وأنّ هناك من الرجال من يفوقك قوّة.. وشدّ أذني، حتى خرجت من رأسي! وركب حصانه ومضى.

هنا- أردف سعيد وأماط كوفيته عن أذنه-وقال:

أنظر يا خليل، أنا الان بلا أذن. أما هذه الحادثة، فقد غيرت نظام حياتي، وغيرت من طبعي الكثير.. وها أنذا أجلس الان، بانتظار دوري، و أرى الناس يعتدون على دوري. أستطيع أن أسترجع حقّي بالقوة أو غير ذلك.. وأنا اخترت غير ذلك!

ذهِل خليل مما سمع.. جلس وكأنّه غائب عن وعيه ،مستذكرًا ما سمعه من سعيد، الّذي كان مسرورًا لأنه أحسّ بأنه يقدّم نفسه مثالا لحسن الخلق والصبر..

وما هي إلا سويعات، حتى أتم الإثنان طحنهما.. وعاد كل منهما إلى بلدته ،منتشيًا بما عاد به من الطّحين والخير الوفير.

سعِدوا جميعاً بثمرة تعبهم.. ولم تسأل زوجته عن تأخره.. هي تعلم بُعد المسافة و معاناة الطّحن.. فقامت من فورها بخبز وجبة خبز جديدة لهم .

 

 

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!