رجل سبعينيّ/ بقلم : د. علي زين العابدين الحسيني

يبدو أنّ هذا الأمر ستتكرر رؤيته كثيراً في الأيام المقبلة مع أنّي كنت أعده حالة طارئة، أو حاجة ملحة في بعض الأيام لمحتاجي العمل، ما راعني في هذا المطعم المزدحم إلّا صورة رجل مسن يعمل فيه، فيحضر بنفسه الطعام والشراب لجالسيه.
في هذه الأثناء مرت بالخاطر أخيلة كثيرة: مَن عسى أن يكون هذا الرجل؟ ومِن أي فئة؟ وما هي محنته؟ وأين يكون أولاده؟ وكيف بدا له أن يودع الراحة في مثل هذا العمر؟ وما الذي يمرّ بباله وهو يخدم شباباً قد يكون أحدهم أصغر من أحفاده؟ وما الذي مرّ بحياته من نعماء هذه الدنيا وبأسائها حين حملته رجلاه للعمل في هذا المطعم؟
أعجز حقاً عن وصف ذلك الشعور حينما أدخل مطعماً فأجد رجلاً مسناً يقوم على خدمتي، ذاك شعور يوحي بالضجر والحزن معاً، ويرهق النفس في التفكير، ويتزايد مع الوقت خاصة عندما أرسم صورة ذهنية لأمثالي، أو أفكر في خارطة المستقبل، أجلْ هذا الرجل كبيٌر اليوم، وأنا وأنت مثله في الغد، ماذا سيكون حالنا بعد سنوات حينما نبلغ سنّ هذا الرجل، والدنيا لا تستقر على حال، والأيام قد جرت عادتها أن تتبدل بما يدعو إلى الحذر منها، ولا ينبغي لمثل هذه المشاعر أن تكون حبيسة القلب، بل يجب إظهارها بالكتابة وتعريف الآخرين بها، لا أعلم في هذه اللحظة ما ينبغي عليّ فعله تجاه هذا الرجل السبعيني، هل أبارك له فعله بكلمات مدح وعبارات ثناء، فأطيب خاطره بما يجعله مقبلاً على عمله، أم أكتفي بالسكوت كغالب الناس حينما يرون هذه الظواهر المنتشرة بيننا حديثاً، فلا يتحرك لهم ساكن، ولا يشعرون أن ثم تغييراً في أخلاق الناس بدا ظاهراً، وقد وفدت علينا أخلاق جديدة، فلم يعهد أحدنا أن يقوم على خدمته رجل في مثل هذا العمر، وإذا كنّا ونحن صغار قد تعلمنا أن نقوم على خدمة كلّ كبير في السن عرفناه أم لم نعرفه، فما بال هذه الأخلاق ماتت أو كادت أن تموت!
كان الناس من حولي يشاهدون منظر هذا الرجل على أنّه حالة طبيعية لا يصحبها ألم ولا حزن، وبلغ الأمر أن فاه شابٌ له بشكلٍ مخجلٍ مريب بأن يسرع في إحضار طلبه، فأوقع الرجل في حرج شديدٍ، أما أنا فقد وقفت ذاهل اللب أتمنى زوال هذا الموقف سريعاً، فأخرج من هذا المكان دون أن يقوم هذا الرجل بخدمتنا، ولعلّ هذا يرجع إلى أنني كنت مشغول البال بمروءة ذلك الفلاح التي تصحبني أينما حللت، والذي يستحيل عليه أن يرى هذا المنظر فلا يتبدل مزاجه، وربما لتلك الصورة المستقبلية التي كانت حاضرة أمامي في شخص هذا الرجل.
لا أتمنى زوال شيء من الظواهر المنتشرة مؤخراً كحرصي على القضاء على هذه في أقرب وقت بتأمين حاجةِ هؤلاء الكبار، أو على الأقلّ مساعدتهم على إيجاد أعمالٍ تليق بهم اجتماعياً وتتناسب مع أعمارهم، فأيّ مروءة تكون عند شخصٍ يقوم على خدمته رجلٌ ستينيّ أو سبعينيّ، وأما القاصمة الهالكة فهي أن تكون المرأة العجوز هي مَن تقوم بذلك!
ولكم تطلعت إلى ردة فعل قوية من أحد الجالسين حينما رأوا هذا الشاب المتطاول في أسلوبه، لكن يبقى أننا أكثر تطلعاً وتشوفاً إلى حوادث الطرق، فهذه المشاهد الوقتية التي تسوقها تلك الحوادث هي كلّ ما نملكه من أسباب التسلية وفرصة إبداء الآراء، فما أن حدثت أمام المطعم حادثة إلا وكان الجميع في الخارج يبدي كلّ واحد رأيه، ونحن لا نجتمع إلّا إذا تصادمت سيارتان.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!