رحلة العمر / بقلم:عبد السلام كشتير (المغرب)

لم أكن أعلم إلى حدود اللحظة بوجود ألبوم الصور في هذا المجرٌِ بالذات الذي نادرا ما أفتحه وأتفقد لغرض ما محتوياته، لسبب بسيط أنه يوجد في أسفل الدولاب الذي يتسع لعدد لا بأس به منها، لا تفتح إلا للحاجة، وأنا بالكاد أنحني فأتجنب مثل هذه التمارين الزائدة والمتعبة. غاب عن ذهني أمر الألبوم والصور.. لقد مر زمن طويل على وجوده هنا.

أخذت الألبوم بهدوء لما وقعت عيناي عليه وكأنني عثرت على كنز ثمين، أتامل ألوانه وشكله وحجمه، واسترجع مضمونه تدريجيا وأحاول التنبؤ بمحتوياته أو بعضا منها، وكأنني أسترجع الذكريات التي عشناها معا أنا وزوجتي طيلة السنوات التي مرت علينا بأحلامها وواقعيتها، وبمشاكلها ونجاحاتها، وحلوها ومرها.. سنوات عمر اختزلناها في صور كثيرة، منها ما احتفظنا بها بين دفتي هذا الكتاب العجيب، ومنها ما اندثرت وضاعت، أوسقطت في غياهب النسيان..

خطوت خطوات إلى السرير وأنا أمسك بصيدي الثمين والفرح يدفئ دواخلي، وتفضحني ابتسامة خجولة استعدادا لما سأرى من لقطات ومشاهد ولحظات تم اقتناصها في مختلف الفضاءات والأماكن التي زرناها أو مررنا بها زمنا ما.. في ليالي كانت منورة بأنوار الاحتفالات العائلية والصديقة .. أو لحظات هدوء وسكون في فضاءات المقاهي والمطاعم العديدة التي ارتديناها معا لما كنا في بدايات حبنا أو مع طفلينا .. أو لوحدنا مع الذكريات … مر بذهني شريط الصور مسرعا، وقد ازدحمت فيه الأماكن والفضاءات التي شهدت على وجودنا بها، وسجلت لحظات من حياتنا وفرحنا وترحنا.. وأنا أحاول التريت أكثر حتى أنظم هذه الأحداث وأطابقها مع حقيقة ما تعكسه صور الألبوم التي كيف ما كان الحال ليست بالعدد الذي يغطي كل سنوات عمرنا الطويلة والحمد لله.

فتحت الألبوم عشوائيا، فإذا بي أجدني أمام صور تضج بالحركة والمرح والأضواء الزاهية التي لمعت ملامحنا وأشعلت قلوبنا فرحا وسرورا. إنها صور حفل زفافنا الذي رغم اختلافنا في جدواه وأهميته واعتباره مضيعة للمال والجهد والوقت، إلا أننا تأكدنا، بعد حضور أعراس في محيط عائلتنا وأصدقائنا وزملائنا، أنه شر لا بد منه، وأن ليلة واحدة ستكون الفيصل في حياة زوجين قد تطول أو تقصر حسب طبعهما وسلوكهما وقوة تماسك حبهما، ليلة ستؤرخ للحظات متميزة تحفها كل أنماط الزينة والأناقة والأبهة والسلطنة .. ستكتب بمداد الحب المعطر بأريج العشق الذي حفنا ويحف كل عروسين في ليلتهما الخالدة.. نعم إنها ليلة خالدة تبصم بقيمتها الروحية والنفسية والمعنوية مسار عمر الزوجين، وتشكل ملاذا يهفو إليه كل واحد منهما كلما أراد أن يجدد عشقه لشريكه ويرفع من مستوى الإعجاب به، ويقيس مستوى ودرجة حبه له رغم تبدل الزمن والتاريخ وتضاريس الأجساد.

لم أطل النظر كثيرا في صور عرسنا، بل أردت أن أبدأ من البداية من تلك الصورة الأولى التي أرٌَخت للحظات القليلة وللبداية، بداية حبنا .. اللحظة التي خرجنا فيها لأول مرة بعدما رفرف قلبي لها وسلكتني تلك الرعشة العجيبة التي تصيب كل محب من أول نظرة، فكان موعد اللقاء الأول بارتباكه وتلقائيته ومفاجٱته التي قد تكون غير حميدة أحيانا.. إنما صمدنا وحدث اللقاء، ولو أن كل واحد منا كان يمرر في رأسه شريطا ألفه على عجل، ربما معتمدا على ما سمعه أو قرأه أو تخيله ليواجه به هذه اللحظة، وهو لا يعرف كيف سيكون هذا اللقاء وأين سينتهي ومتى.

هكذا إذن، وأمام هذا الوضع المجهول المحاط بكثير من الأوهام والخرافات، كان اللقاء. لم تكن لوحدها، اصطحبت معها صديقتها حتى لا تكون ضحية للخجل وما تحمله في ذاكرتها من تخيلات وأقوال وصور أحيانا وهمية عن اللقاء الأول وعن الصداقة..وعن الحب.. لم أمانع من وجود صديقتها، بل بالعكس استفدنا من خدماتها في أخذ صور لنا معا كلما صادفنا مناظر ومشاهد طبيعية أو عمرانية أو مٱثر تاريخية لنقتنص لحظات ستكون لا محالة دليلا قويا على وهجنا وهيامنا وعلاقتنا. فمدينتنا تجمع بين الماضي والحاضر بين التاريخ والعصرنة والحداثة.. والفضاءات الخضراء والبحر.. فكانت هذ الصورة التي أمامكم هي أول صورة في مسار حبنا وعلاقتنا وحياتنا. ثم تواترت الصور وتتابعت لحظات لقائنا في ذلك اليوم الجميل الذي أعتبره أفضل بكثير من يوم حفل الزفاف، ولن يكون له شبيها أو قرينا أو منافسا. تكلمنا وشبكنا أصابع يدينا وتبادلنا نظرات تفوح دلالا وغنجا وحبا. اقتطعنا من زمان لقائنا الأول لحظات في مقهى تطل على كرنيش المدينة، وتبادلنا اللمسات والٱهات وخجلنا واحمرت خدودنا وامتلأت أكفنا ماء وساح العرق في تضاريس جسمينا.. كان أجمل يوم وأزهى وأبهى لقاء.

لم أرد أن أصف كل صور الألبوم أو أعلق عليها كما فعلت مع الصورة الأولى، لكن دعوني أستعرض عليكم أول صورة، تلك التي التقطتها لنا صديقة زوجتي كما وصفتها، الشباب والجمال والرشاقة والعنفوان والأناقة…  وٱخر صورة، حيث الهدوء والطمأنينة.. والحكمة والوهن، التقطها لنا حفيدي الشاب الذي  غادرنا ليتابع دراسته في دولة غربية. لقد كان رفيقنا ودليلنا في كل شيء. لم يضجر يوما من طلباتنا أو من أسئلتنا، بل كان مساعدا خدوما متفهما لوضعنا النفسي والعقلي والجسدي.. فهم جيدا أثر انسياب الزمن في حياتنا وما تركه من ٱثار علينا، وعلاماته التي نقشت على ملامحنا وفي أجسادنا وحركاتنا، ونحتت حتى طريقة تعبيرنا. لقد كان للزمن ومعاوله أهمية كبيرة في تبدل حالنا، ونحن نقارن بين الصورة الأولى والصورة الأخيرة..

 

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!